الإثنين, 23 كانون1/ديسمبر 2024
Blue Red Green

  • أخبار سريعة
أخبار قانونية: وفاة رئيس القضاء السوداني مولانا حيدر احمد دفع الله - السبت, 24 تشرين2/نوفمبر 2018 18:45
الرئيسية أقسام قانونية متنوعة قضية سودانية محاكمات شهيرة محاكمة لافال – حكومة الماريشال بيتان

محاكمة لافال – حكومة الماريشال بيتان

محاكمة لافال – حكومة الماريشال بيتان

من كتاب اشهر المحاكمات

 

المؤلف : 

المترجم 

 

في الرابع من شهر تشرين الاول – اكتوبر من عام 1945 ، بدأت محاكمة بيار لافال ، رئيس وزراء فرنسا في حكومة الماريشال بيتان . لافال الذي يرى فيه معظم الناس المسؤول الاول عن معاناة لاشعب الفرنسي في الفترة ما بين عامي 1940 – 1944 وهي الفترة التي كانت فيها فرنسا محتلة من قبل المانيا النازية .

ولهذه الغاية ، تشكلت محكمة عليا ، نظرت في البدء في قضية الماريشال بيتان  رئيس الدولة الفرنسية السابق ما بين تموز – يوليو واب – اغسطس سنة 1945 . وها هي اليوم تنظر في قضية لافال ، وبعد ذلك ، في قضايا جميع الوزراء والنافذين في حكومة فيشي .

وهيئة المحلفين في هذه المحاكمة في هذه المحاكمة كانت قد تألفت من ستة وثلاثين محلفاً ، نصفهم من عناصر المقاومة والنصف الاخر من اعضاء مجلس النواب المنتخب في ظل الجمهورية الثالثة .

غير ان هذا العدد عاد واختصر الى اربعة وعشرين : اثنا عشر منهم من البرلمانيين والاثنا عشر الاخرون من غير البرلمانيين . هذا التوزيع اثار انتقادات لاذعة من قبل الفرنسيين، ذلك ان الانتخابات النيابية لم تكن قد جرت بعد عندما تقرر ذلك . وهي لم تجر الا بعد ثلاثة اسابيع من بدء المحاكمة . يضاف الى ذلك ان الجمهورية الثالثة كانت غير قائمة فعلاً . فقد سبق واولت هذه الجمهورية كافة صلاحياتها الدستورية الى الماريشال بيتان . اما الجمهورية الرابعة ، فانها لم تبدأ قانوناً الا بعد انتخابات العاشر من تشرين الثاني – نوفمبر والثامن من كانون الاول – ديسمبر من سنة 1945 .

 

كل هذا يعني ان ما تقرر بالنسبة لتشكيل هيئة المحلفين ، انما تقرر في الفراغ الدستوري ، وبالتالي ، يعتريه عيب جوهري .وقد اثار محامو بيتان هذه النقطه اثناء محاكمته . لكن المحكمة ردت الاعتراض واعتبرت نفسها صالحة للنظر في القضية . وهذا ما تم بالفعل . لذلك لم يعد من المفيد العودة الى هذه النقطة في محاكمة لافال .

بدأت المحاكمة بعد ان احتل كل من الرئيس والاعضاء وهيئة المحلفين اماكنهم . اما المتهم ، فقد كان في القفص شاحباً ، مما يوحي بأنه كان مريضاً . مقاعد الدفاع وحدها كانت شاغرة . لماذا ؟ هذا السؤال طرحه الحضور كل على نفسه . وسرعان ما أتى الجواب عندما قرأ الرئيس كتاباً من محامي الدفاع الثلاثة يقولون فيه ان " التحقيقات التي سبق وطلبناها لم تؤمن ، على الرغم من الوعد بتأمينها . ونحن نخشى ان تؤدي السرعة في اجراء المحاكمة ، والتي املتها ضغوطات سياسية ، لا اعتبارات قضائية  الى التضحية بالعدالة . يتضح هذا من قول رئيس المحكمة انه سينتهي من المحاكمة باكملها قبل الانتخابات ، ولو اضطره ذلك الى وصل الوقت صباحاً وظهر ومساء ".

ولو علمنا ان الانتخابات عينت في 21 تشرين الاول – اكتوبر ، وان المحامي الذي كتب الرسالة باسمه واسم زميلة هو من قدام المقاومة ، ولا يكن بالتالي اي تعاطف مع المتهم ، وقد عينته المحكمة نفسها ، لاتضح الثقل الذي ارخت به الرسالة على المحكمة ، والاحراج الذي سببة لها .

والواقع ان التحقيقات بمعظمها اختزلت ، ان لم نقل نسفت . فبعد ان كان قاضي التحقيق يزمع اجراء خمس وعشرين جلسة ، انزل العدد الى سبع ، ودون اي تعليل . هذا بالاضافة الى ثغرات اخرى في ملف الدفاع نفسه . وثغرات التحقيق والدفاع هذه حصلت بالطريقة عينها في ملف محاكمة بيتان التي تمت .

غير ان مكابرة رئيس المحكمة ادت الى اعتبار رسالة محامي الدفاع نوعاً من الابتزاز وها هو يصرخ من على القوس منفعلاً :

قلت واكرر انني لن اؤخذ بالمناورات . ولن اسمح بالعودة الى هذه النقطة !

وتلاه المدعي العام الذي استنكر هو الاخر رسالة الدفاع ، لا سيما ما جاء فيها من ان المحكمة تتأثر بضغوطات سياسية .

لكن لافال ينتفض في قفصه ليصرخ في وجهه :

-     لكن الواقع هو ان هذا صحيح . وانت نفسك كنت في حكومتي ! واليوم تسوق ضدي تهماً من انواع مختلفة ، لا يحق لكم ذلك ، بامكانكم فقط قتلي . اما ما عدا ذلك فلا .

ويعود المدعي العام لينتفض في وجه المتهم ملصقاً به مسؤولية ما حل بفرنسا من احتلال ومعاناة طوال خمس سنوات . واما عن اختصار التحقيقات ، فقد رد الملاحظة معتبراً انها تفتقر لاي دليل.

 

لكن لافال اجاب مدافعاً :

-     اذا كنت اقف متهماً في هذا القفص ، فلاني حاولت تجنيب بلادي ويلات الحرب . صحيح انني قابلت هتلر وموسوليني وستالين والبابا ، لكن الصحيح ايضاً انني فعلت ذلك من اجل فرنسا. وقد كنت مستعداً لمقابلة الشيطان والتحدث معه من اجل هذه الغاية .

 

وساد في القاعة صمت عميق . صمت قطعة المتهم عندما اكمل قائلاً :

 

-     غلطتي الكبرى هي انني وثقت بالماريشال بيتان . هذا الرجل لم يكن رجل الظرف . واذا كنتم تعتقدون انكم باتهامي تدافعون عن فرنسا ، فاني اقول لكم انكم بالاستماع الي تعرفون كم خدمت بلدي . اما عن التحقيقات ، فاني اطلب تمديد مهلتها ثمانية ايام للتوسع فيها .

           

ولم تقبل المحكمة الطلب . فينتقض لافال ثانية ويقول :

 

-         غريب هذا الامر فعلا ! اعتقد ان مثل هذا الطلب هام ، حتى ولو جاء في قضية سرقة واحد من المخازن الكبرى .

 

ويلتفت الى المدعي العام ليقول في وجهه :

-         قرأت قرار الاتهام الذي نظمته بحقي . انه عبارة عن مقال رديء في صحيفة . فالاتهامات التي تلصقها بي رهيبة . الهدنة ؟ الا ترى انه كان لا بد منها وانها كانت مطلب 99% من الفرنسيين ؟

ويضيف بعد تنهد :

-         عندما يحارب العسكريون عندنا ، فانما يحاربون بشكل سيء جداً . أما عندما يتدخلون في السياسة ، فان تدخلهم يكون أسوأ بكثير .

 

وحتى يعرف الجميع ان المقصود بهذه الملاحظة هو الجنزال ديغول ، فقد اضاف :

استميح الجنرال ، الذي هو الان في السلطة ، عذراً لكنني اعتبر ، وهو في هذا الموقع ، انه مدني ليس الا .

وتجري ملاسنة حادة بين المدعي العام والمتهم ، يصرخ في نهايتها هذا الاخير في وجه خصمه قائلاً :

-         لن تتمكنوا من السيطره على افكاري وعلى مشاعري . يمكنكم الحكم علي فوراً بالاعدام . احكموا علي فهذا سيكون اكثر وضوحاً .

 

وهنا ، ينفعل الرئيس ويأمر الشرطة باخراج المتهم . فيرد هذا قائلاً :

   لا لزوم لذلك . سأخرج وحدي .

 

ويخرج فيصفق له احد الوزراء في حكومة فيشي .

وعندما عاد الهدوء الى القاعة ، أعلن الرئيس انه يرفع الجلسة لتعقد في اليوم التالي ، ولو دون وجود المتهم .

 

وخرج الحضور وفي اذهانهم ان شيئا ما غير طبيعي يحدث في هذه المحاكمة وان لافال كان على صواب عندما اشار اليه بوضوح . في اليوم التالي ، بدأت الامور مختلفة بعض الشىء . فقد اعلن الرئيس ان المحلفين رجوه بالاجماع ان يسمح للمتهم بالعودة الى القاعة شرط ان لا يعاود سلوكه بالامس ، تحت طائلة طرده نهائياً منها . اما محامو الدفاع ، فقد قطعوا امتناعهم عن الحضور واتوا جميعاً ليحتلوا مقاعدهم . جديد اخر ، وهو ان الاستماع الى رئيس الجمهورية السابق ، البير لوبرون ، قد ارجىء الى وقت اخر سيعلن فيما بعد .

 

بدأ محامي الدفاع الجلسة بتوضيح اساب عدم حضوره بالامس ، هو وزملاؤه ، قائلاً ان مستندات التحقيق لم تودع اياهم كلها . ولهذا استوجب " اعلان ذلك للملاً ، حتى يأخذ الرأي العام علماً به وبالتالي ، بالحد من حقوق الدفاع المقدسة " .

 

ثم انتقل الى انتقاد سوء معاملة موكله طوال فترة التوقيت . فالزنزانة التي وضع فيها لا مثيل لها في السجن لاي موقوف من الموقوفين السياسيين . هذه الملاحظة لم ترق للرئيس مما تسبب في تعكير الجو ، لولا ان تدخل نقيب المحامين ورطب الاجواء بعض الشيء. لكن الاعصاب كانت اصبحت من التوتر بحيث تنذر بما قد لا تحمد عقباه .

 

وانهى محامي الدفاع ملاحظاته بطلب اعادة القضية برمتها الى قاضي التحقيق لاستكمال الملف وسد الثغرات فيه . ويذكر ان المتهم طلب نفسه في جلسة الامس . وقد قال المحامي في هذا الصدد :

 

-     لماذا لا تكون قضية بيار لافال كبيرة قدر كبره ؟ لماذا نحرمه من ابسط مبادىء العدالة ونمنع عليه ضمانات تعتبر من المسلمات التي لا نقاش حولها ؟ اليس في هذا مناسبة لالقاء الضوء على سنوات اربع من تاريخنا الدراماتيكي ؟

 

وتلاوه زميله ، محامي الدفاع الثاني ، جاك بارادوك ، ليؤكد الطلب ، مبرراً اياه بصعوبة استدعاء السياسيين الذين  يزمع دعوتهم للشهادة ، في خضم المعركة الانتخابية التي تخوضها البلاد . وانهى المحامي طلبه بهذا التساؤل ، والذي طرحه بنبرة الاتهام المبطن:

 

-     ما هي الاوامر التي وجهت اليك ، سيدي الرئيس ، للتتغاضى عن مثل هذه النواقص ؟ ويستشيط الرئيس غضباً واحراجاً ويرد على المحامي قائلاً :

-     امنعك من ان تكلمني بهذه اللهجة . وعليك ان تعلم انني لا اتلقى امراً من احد.وهذا نهجي منذ خمس واربعين سنه ، اي منذ بدات اتولى منصب القضاء .

 

    وهنا يتدخل المتهم ليطلب من المحكمة ان تستكمل ان تستكمل اجراءات التحقيق وسط  صخب اضطر الرئيس لرفع الجلسة بحجة التداول من الدفاع .

 

استمر رفع الجلسة ثلاثة ارباع الساعة خرجت هيئة المحكمة في اثرها ليعلن الرئيس ان طلب الدفاع مردود وان ملف التحقيقات لن يعاد الى قاضي التحقيق .

            وصرخ لافال من قفصه :

-         هذا معيب . انها فضيحة . انكم لا تحاكمون هنا شخصاً بقدر ما تحاكمون سياسة .

ويرد عليه المدعي العام :

     - صحيح . نحن نحاكم سياسة . لكنها سياسة صنعها وجسدها هذا الشخص .                      

  فيردف لافال قائلاً :

-     طالما انكم ترفضون طلب استكمال نواقص التحقيق ، فاني اطلب ادراج الطلب ومناقشتة في الجريدة الرسمية . لعل في هذا تعويضاً عن الاجحاف وطعن العدالة .

-     لقد استعاد لافال ذاته . انه يتحدث ، كما كان بالامس كرئيس للوزراء ، لا كمتهم . يتحدث وهو جالس بملء راحته على كرسيه في قفص الاتهام . وقد يكون هذا السلوك من دواعي الامتعاض الذي بدا واضحاً على وجوه اعضاء المحكمة وهيئة المحلفين .

ويكمل الرئيس استجوابه وسط هذا الجو المشحون .

-         الم تكن تمارس سيطرتك وتأثيرك على الرئيس بيتان بما كان يتخذه من قرارات ؟

-         ابداً .... كان يكفي ان ابدي له رأياً ليعمل بعكسه .

-         لكنك كنت في فترة من الفترات وزير دولة ومرشحاً لخلافة بيتان .

-         وزير دولة ! واي يد لي في هذا المنصب ؟

لم يكن التقليل من دور لافال امام الماريشال بيتان بالامر الجديد . لقد حاول ايهام الجميع بهذا منذ الجلسة الاولى ، ساعة لمح الى الخلافات المستمرة بينه وبين رئيسه .

    ويسترسل قائلاً :

-     لم يكن موضوع خلافة بيتان بالامر المهم بالنسبة لي ، واذا كنت قد فكرت به في يوم من الايام ، فذلك حتى لا أترك الساحة ، بعد رحيل الماريشال ، لاي عسكري مثله ، كنت مقتنعاً بأن رجلاً مدنياً يتسلم السلطة خير من اي عسكري . وهذا تفكير مبدئي لا يدخل الاشخاص في تكوينه. وهو ينطلق من مصلحة البلد العليا .

ثم يكمل مدفوعاً بالحماسة ، التي شحنته بها عبارته عن البلد ومصلحته العليا ، وكأنه على منصة بلقي خطاباً سياسياً خطيراً :

-         واذكركم ، انفعلت عندما رأيت مرة تلك العبارة " نحن ، فليب بيتان" يتوج بها توقعيه . قلت يومئذ في نفسي ان التاريخ يعيد البلد الى الوراء ، الى عهد الملكية . وهذا ما اغاظني في العمق .

-         وهل ابديت احتجاجاً على هذا ؟

-         وهل ينفع احتجاج مع الماريشال ؟

-         لكنك مع ذلك ، قبلت منصباً رفيعاً في حكومته .

-     لا منصب رفيعاً معه ، لانه يملك كل الصلاحيات . كان دون سواه ، كل شيء . ولازلت اذكر ما قتله له ذات يوم من انه يحكم كما لم يحكم اي ملك من ملوك فرنسا ، ابان عهود الملكية المتمادية . لم يجبني . لكنه ، في اليوم التالي ، واثناء اجتماعي به ، قال لي : " هل تشك بأن صلاحياتي تفوق بكثير ما كان لويس الرابع عشر بملك " ؟ .

-         ومع ذلك احتفظت بمنصبك في حكومته !

-         احتفظت به كما احتفظ به الجميع ، كل في الموقع الذي هو فيه .

 

في هذا الجو ، انتهت جلسة اليوم . وفي اليوم التالي ، في السادس من تشرين الاول – اكتوبر ، بدأ المتهم الجلسة بطلب الكلام . اثار قضية غيار – بوراجاس ، الذي حكم بالاعدام غيابياً لاشتراكه في عملية بيع صحيفة مارسيلية الى الالمان والتجسس لحسابهم .     وكان اسم لا فال قد تلوث بها  ، لكنه لم يحاكم، كما لم يمثلل امام المحكمة لوجوده انئذ في اسبانيا ،  لقد أراد المتهم من اثارته لهذه القضية ان يربك المحكمة عن طريق اعادتها الى قوانين اصدرتها حكومة فيشي بضغط نازي . وهذه القوانين هي التي طبقتها المحكمة في القضية المذكورة ، لكن المدعي العام رفض هذه العودة الى الوراء قائلاً للمتهم :

 

-         لكن هذه القوانين اقترنت بتوقيعك عندما كنت في الحكم .

-         وانت طبقتها .

-         ابداً .

وتدخل الرئيس لحسم الجدال واعادة بعض الهدوء الى القاعة ، وسأل المتهم :

-     بالامس سألتك كيف بقيت في منصبك في حكومة فيشي وسط هذا الجو المشحون بالضغوطات النازية وبفرض اراده المحتل . والجواب لا شك هو ان الالمان هم الذين وضعوك في هذا الموقع وارادوا لك الدور .

-         لا ، سيدي الرئيس .

-         بلى – علماً بأني لا اود ان اتخذ صفة الاتهام . لكني القي ضوءاً ربما يكون في ذلك بعض الفائدة .

هنا ، بدأت همهمة في القاعة . صحيح ان معظم الحضور لا يتعاطف مع لافال ، لكن تنصيب الرئيس نفسه في مركز الاتهام لم يرق لهم . فهذا مخالف لابسط قواعد اصول المحاكمة وطعن للعدالة في الصميم .

وينتزها لافال ليهاجم . وتدب الفوضى في القاعة . ووسط هذه الفوضى ينطلق المتهم كالنمر في وجه الرئيس والاعضاء :

-         امام ما خلقته بمخالفتك للاصول وكذلك ما يحويه ملف التحقيق من ثغرات وانحرافات ، ارى نفسي امام صعوبات لست مسؤولاً عنها .....

-         ولست مسؤولاً كذلك عن افعالك طوال اربع سنوات من العمالة اليس كذلك ؟

-         طالما ان المحكمة تطرح السؤال وتعقيبه بالجواب ، فأني أرى ان نتوقف عند هذا الحد ، حفاظاً على حرمة العدالة وجلالها .

ويتدخل احد المحلفين للدفاع عن موقف الرئيس فتختلط الاصوات وتدب الفوضى . ويحاول صوت الرئيس ان ينفذ ليسال المتهم :

-         الكلمة الان للمحكمة . هل يرغب المتهم بالاجابة عن اسئلتها ؟

-          لا .

-          احذرك من مغبة هذا الموقف . مرة ثانية ، هل تجيب عن الاسئلة .

-         كلا ، طالما ان الطريقة في طرح الاسئلة هي اياها ، وطالما ان الاسئلة تطرح . بروح عدائية.

-         حسناً . رفعت الجلسة .

قال الرئيس هذا وهو يغلي حنقا وحرجاً .

ويعود الهرج والمرج على اشده . حتى ان بعض المحلفين توصل الى رفع الايدي في وجه المتهم والى اغراقه بالسباب والشتائم :

-         محرض ...!

-         سوف تلقاها ، رصاصاتك الاثنتي عشرة !

-         بل حبل المشنقة !

-         سنسمعك تعوي بعد خمسة عشر يوماً !

وعندما قال له محلف اخر بلهجة مليئة بالحقد :

-         لم تتغير !

أجابه :

-         ولن اتغير .

ظلت الجلسة مرفوعة بعض الوقت . وعندما عادت والتأمت ، بدأها المتهم بقوله :

-     ان الطريقة التي تعاملني بها محكمتكم تطعن العدالة في الصميم . وحتى لا اكون شريكاً في هذه الجريمة تساق ضد العدالة ، فاني اعلن امتناعي عن الكلام .

ويرد عليه الرئيس بقولة :

-         يعني ذلك انك لا زلت ترفض الاجابة ، اليس كذلك ؟

أجل .

ويهز الرئيس كتفة مبدياً بوضوح عجزه في الامر . وبعد ذلك يأمر بمباشر المحكمة ان يدخل الشاهد الاول .

لكن مهزلة جديدة تبدأ وسط الفوضى والضجيج . لم يكن منتظراً ان يستدعى الشهود في هذه الجلسة . ذلك ان استجواب المتهم كان سيستغرق جلسات ، مما لم يتم معه استدعاء اي شاهد هذا اليوم .

أمام الواقع المخزي ، اعلن الرئيس تعليق الجلسة ، أسرع في ارسال الامر المباشر ليفتش في طول باريس وعرضها عن واحد من شهود الادعاء الاربعة ، رئيس الجمهورية السابق البير لوبرون ، السفير ليون نويل ، الجنرال وأمين سر مجلس الشيوخ السابق دي لا بومراي .

في هذه الاثناء ، ارسل رئيس المحكمة ايضاً احد موظفية الى المتهم ليقنعه بالعدول عن موقفة والتجاوب مع المحكمة برده على اسئلتها . لكن موقف لافال كان صلباً :

-         لا تراجع . كل ما يجري هو من صنع المحكمة . فليحكموا علي ، انما لن يحاكموني .

وعادت المحكمة الى الانعقاد وسط احراج لها كبير . فلا المتهم ولا محاموه الثلاثة ، الذين تضامنوا معه ، حاضرين في مقاعدهم . مخرج صغير اتيح بشق النفس : لقد حضر ، او أحضر، شاهد واحد من الاربعة ، وهو الرئيس السابق للجمهورية ، البير لوبرون ، وقف هذا الشاهد ليعلن انه ليس لديه ما يقوله وما يمكن ان يكون مفيداً . اكتفى بسرد بعض الوقائع عن تسلم الافال الحكومة وعن الهدنة . وكلها لا تؤثر في صلب سير المحاكمة او في القضية من قريب او بعيد .

كان من المتوقع ان يستمر المناقشات ما يقرب من ثلاثة اسابيع . لكن السؤال هو كيف لهذا الوقت ان يملأ وملف التحقيق شبه فارغ ؟ ناهيك عن اصرار المتهم على عدم المثول امام المحكمة !

وهكذا كانت جلسة الثامن من الشهر تتخبط في جو باهت من الفراغ في الشكل وفي الاساس . فمقاعد المتهم ومحامية فارغة . اما المناقشات ، فكانت تافهة لدرجة انها لم تثير اهتمام احد . حتى الشهود الادعاء ، ومنهم الجنرال دوايين وامين السر العام لمجلس الشيوخ وعضو اتحاد العمال ، فكثيراً ما كانوا يغرقون الاخرين من تفاصيل مملة وسخيفة . واللحظة الوحيدة ، طوال هذه الجلسة والتي وجد فيها الحاضرون انفسهم مشدودين بعض الشىء الى أمر على قدر من الاهمية ، هي تلك التي قال فيها عضو الاتحاد هذا كيف ان الافال كان يستعجل فيها حكام المقاطعات على القاء القبض على العمال المعارضين لسياسته وزجهم في السجون . وقد بلغ عددهم خمسين الفاً ذهبوا ولم يرجعوا .

وجاء دور شهود الدفاع : ادوار هيريو ، بول بونكور ، البيرسارو ، بول رينو ، ليون بلوم والجنرالات دونين وبريدو ودي بيناي .

والغريب ان احداً  من هؤلاء لم يكن حاضراً . جميعهم ، وهم من السياسين ، كانوا منهمكين في معاركهم الانتخابية بعيداً عن باريس .

وبغية كسر الجليد الذي تراكم منذ بداية هذه الجلسة ، فقد امر المدعي العام كاتب المحكمة بقراءة الشهادة الخطية المقدمة من السيد غازيل ، وهو دبلوماسي فرنسي سابق عمل في اسبانيا . ولشد ما كانت الدهشة مروعة للمحكمة بكافة عناصرها عندما لوحظ ان هذه الشهادة لا تمت للقضية بصلة وأنها ضمت سهواً الى الملف !

وحتى يستوعب الاستهجان الذي بدا واضحاً على الوجوه ، صرخ الرئيس بوجه الكاتب قائلاً له :

-         ما هذا الذي تتلوه ؟!

وبذلك اضيف مهزلة الى المهازل المتراكمة في تلك المحاكمة ، التي تنظر في الواقع ، بأربع سنوات من حياة فرنسا ، اربع سنوات ، ربما كانت الاخطر في تاريخ هذا البلد الطويل .

بعد ذلك ، وللتخلص من الورطة ، أمر الرئيس برفع الجلسة لتعقد بعد قليل وفي بداية الجلسة التالية ، رأت المحكمة أن تقرأ الصفحات الخمس عشرة ، التي يتألف منها ملف التحقيقات . لكنها، وقد وجدت ان القراءاة ستستغرق وقتاً قليل ، طرحت فكرة قراءة مقتطفات فقط . ولم تحتج الى عناء لاقناع هيئة المحلفين بالفكرة فموافقتها جاءت فورية ، وهذا دليل اخر ، يضاف الى الالة السابقة ، على استهتار وسطحية ، قلما لوحظ مثلهما في محاكمة اخرى .

هذا الجو استمر في جلسة التاسع من الشهر ، وبعمق اكبر . كان على المحكمة ان تستمع في هذه الجلسة الى شهادة ليون نويل ، سفير فرنسا الذي سبق وأدلى بشهادة في قضية الماريشال بيتان . تقدم هذا الشاهد الى المنصة . وعندما طلب منه الرئيس حلف اليمين ، رفض قائلاً انه سبق ان حلفها قبل شهادته المدونة في ملف التحقيق ، وانه لا يرى مسوغاً لحلفها طالما ان المتهم ومحاميه متغيبون ، وبالتالي ، لا يسعهم مناقشتها والدفاع  فيها .

وغادر الشاهد القاعة ملقناً المحكمة درساً في اصول المحاكمات ، وكذا في الحفاظ على حد ادنى من الاعتبار للعدالة وحرمتها .وسط الضيق والحرج اللذين سببهما هذا التصرف للمحكمة بكامل هيئتها ، وقف المدعي العام يلقي مرافعته . كان بارداً ، بل ومتعباً . وبكلمة مختصرة ، كان غير موفق .

ومما زاد الطين بلة ، انه لم يتورع عن القول ان هذه المحاكمة ينقصها الوضوح في الرؤية والصفاء في المعطيات . قالها وكأنه غير مسؤول ، مع سائر المسؤولين ، عن هذا الواقع . وأضاف متسائلاً :

-         كيف لا تكون هذه المحاكمة كذلك ، والمتهم اصر منذ الجلسة الاولى على عدم المشاركة ؟

ويضاف اختصار الى اختصار . فقد كانت مرافعة المدعي العام قصيرة ولم تعقبها مرافعات الدفاع او ملاحظات المتهم . وهكذا ، في الساعة الرابعة والدقيقة العاشرة ، بدأت خلوة المداولة ولم تستمر اكثر من ساعة واحدة . ساعة واحدة في قضية على هذا القدر من الاهمية والتشعب .

وصدر الحكم المنتظر . الاعدام بسبب " محاولة قلب نظام الحكم الجمهوري والتعامل مع العدو والخيانة العظمى " وأعقب هذا الحكم ملحق بمصادرة ممتلكات لافال بكاملها لصالح الامة .

وعندما ابلغ المحكوم الحكم ، استمع اليه بهدوء ثم قال :

-         مؤسف لانهم لم يتركوا لي مزيداً من الوقت لاكتب صفحات اخرى من تاريخ فرنسا . وأضاف:

-          ليس في نيتي التقدم بطلب التماس للعفو .

كانت الضجة التي احدثها هذا الحكم كبيرة في فرنسا . لم يكن الاحتجاج عليه لانه انزل عقوبة بمن تعاون مع العدو النازي ، لكن الثغرات التي لم تستكمل في التحقيقات وتحيز المحكمة طوال المحاكمة هي التي القت بظلال كثيفة على القضية واحاطتها بأكثر من علامة استفهام .

وهرع محامو لافال الى محاولة ، بل محاولات انقاذ موكلهم . في العاشر من الشهر ، طلبوا مقابلة رئيس الحكومة ، الجنرال ديغول وفي الحادي عشر منه ، توجهوا الى شخصيات عدة يمكن ان تكون مفيدة في هذا الاطار . منها رئيس الحكومة السابق ، بول رينو ، الذي قبل ان ينشر في جريدته ، النظام ، مقالاً ينتقد اجراءات المحاكمة دون جوهرها .

اما ليون ، صرح بأنه لا يعتقد ان لافال كان طيباً بقدر ما يعتقد انه كان مسالماً اكثر من اللازم . واستغرب كيف ان فوتت فرصة عدم التوسع في المحاكمة .

ذلك انها ، في نظره ، مشوقة ومفيدة في ان معاً .

في اليوم التالي ، اي في الثاني عشر ، وعند الساعة السابعة مساءً ، استقبل الجنرال ديغول المحامين الثلاثة في مكتبه . كانت المقابلة بروتوكولية . وبعدما شرح احد المحامين وجهة نظره وطلب اعادة المحاكمة ، سألهم الجنرال عماً اذا كان لديهم ما يضيفونه ، ووقف منهيا المقابلة ومودعاً اياهم بلباقة كلية .

وكان الجنرال في ظهيرة اليوم نفسه ، قد صرح لصحفين انكليز جاؤوا يسألونه عن القضية انه لن تكون هناك " محاكمة ثانية للافال " .

خرج المحامون من مكتب الجنرال . وفي الغرفة الملاصقة ، حيث مكتب مدير قضايا العفو ، رأوا مدير مكتب الرئيس ، غاستون بالوسكي ، يدخل عند الرئيس وفي يده نسخة من مجموعة القوانين . وها هو يخرج بعد لحظات ليعلن للمحامين الثلاثة ان الرئيس سيطلب استشارة من حارس الاختام الموجود حالياً في مدينة رين لادراة حملته الانتخابية .

وعلى هذا ، فانه سيرسل اليه غداً رسالة محمولة بالطائرة مع احد موظفي وزراة العدل لهذه الغاية .

اسرع المحامون الى الكاتب فرنسوا مورياك لينشر في جريدة الفيغارو مقالاً اخر يضيفه الى مقالاته التي باشر بنشرها منذ ايام ، وفيها  ينتقد سياية التصفيات التي تتبعها المحاكم للتخلص من خصوم غير مرغوب فيهم . وقد اراد المحامون بهذه الخطوة دفع الحكومة والمحكمة العليا لتقرير اعادة المحاكمة ، خوفاً من التلوث في الاتهام بنحر العدالة .

لم يكتب مورياك المقال . لكنه كتب ، بعد شىء من النقاش ، رسالة الى حارس الاختام حملتها الطائرة ، التي حملت رسالة ديغول .

يوم الثالث عشر ، لم يرشح اي خبر من رئاسة الحكومة . اليوم التالي ، كان يوم أحد . ويوم الاحد لا تنفذ احكام اعدام . مساء ذلك اليوم الطويل ، رن جرس التلفون في مكتب احد المحامين، الاستاذ البيرنو ، ليعلن المتحدث عبر الخط :

-     سيدي ، انا مكلف من الرئاسة بابلاغك ان بيار لافال سيعدم غداً صباحاً . اللقاء امام قصر العدل ، حيث ستكون بانتظارك سيارة تنقلك الى مكان التنفيذ .

-     وهكذا حسم الموضوع ، ولن تكون هناك اعادة للمحاكمة . ما ان انتهت تلك المخابرة الهاتفية  حتى توجه المحامون الى السجن حيث يقبع موكلهم في احدى زنزاناته .

دخلوا اليه بعد اذت خاص ، وبعد ان اشير اليهم بعدم ابلاغه موعد تنفيذ الحكم . وقد وجدوا لافال اخر ، لم يعد ذلك الرجل القوي والمتغطرس ، لقد حل محله انسان اخر ، انسان يتمسك بالحياة ويريد ان يستمر فيها .           وها هو يتوجه الى محاميه يطلب ان يتصلوا بشخصيات ، سماها لهم ، ممن يمكن ان يكونوا مفيدين في اطار طلب العفو او اعادة المحاكمة . ولم يكتف بذلك ، بل اشار اليهم ان يمسكوا اقلاماً وورقاً ليملي عليهم رسائل بهذا الشأن . كان عصبياً ومتشنجاً وهو يردد :

أرفض ان أموت . أرفض .

انه يرفض ان يموت ، ولكن اليس بعد فوات الاوان ؟ وارتبك المحامون . اطاعوه في كتابة الرسائل ولم يكتشفوا له السر الرهيب .

كانت الساعة تدق الثامنه صباحاً ، يوم الرابع عشر من شهر تشرين الاول – اكتوبر من عام 1945 ، عندما بدأ المكلفون بالتنفيذ ، من رسميين وسواهم ، بالصعود الى السيارات التي ستقلهم الى السجن . وصلوا ودخلوا زنزانة لافال . اما سائر الزنزانات ، فقد اغلقت شبابيكها الصغيرة المطلة على الممر حتى لا يرى المحكومين الاخرون ترتيبات تنفيذ حكم باعدام محكوم زميل لهم.

فتح الحارس المكلف زنزانة لافال الذي كان نائماً . لحق به المدعي العام وربت على كتفه ليوقظه . نهض المسكين ، فقال له المدعي العام :

-         بيار لافال ، حان الوقت ، تهيأ للموت بشجاعة .

لم يجب لافال . ولم يتحرك . تقدم أحد محاميه وهزه قليلاً قائلاً له :

-         أرجوك يا سيدي . من أجلك ، من أجل محاميك ، من أجل التاريخ ، تشجع .

واستمر لافال في جموده بعض الوقت . أخيراً ، التفت ببطء وأفلت زجاجة صغيرة فارغة كان يمسكها بيده . لقد تجرع السم .ويتقدم الطبيب الشرعي بسرعة ليتفحص الزجاجة ويقول :

-         انه السيانور

وتسترعي انتباه الحضور قصاصة ورق كتب عليها :

-     ارفض ان أموت برصاصات فرنسية . لا اريد ان يشترك جنود فرنسيون في قتل القانون . لقد اخترت موتي بسم الرومان . هذا السم ، سبق وخبأته في طيات ثيابي .

وأسرع طبيبي السجن الى اسعاف لافال المحتضر ، بعد ان رفض الطبيب الشرعي هذه المهمة متذرعاً بموقف انساني . اسرع الى الحقن اللازمة وغسيل المعدة . وقد دام هذا الاسعاف قرابة ساعتين .

وحوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً ، وكان لافال قد تماثل الى الشفاء ، اذاعت وزارة العدل بياناً فيه من البلية ما يضحك : قال البيان :

            " لم تعد حياة بيار لافال في خطر " وهذا يعني ان الاعدام سيتم .

وبعد لحظات ، كان لافال قد لبس ثيابه ووضع باقته البيضاء ووشاحه ذا اللونين . كما كان قد مشط شعره ووضع قبعته على رأسه .أرادوا ايجلسوه على كرسي لينقلوه الىحيث الاعدام فرفض قائلاً :

-         رئيس وزراء فرنسا يموت واقفاً . سأستجمع قواي لاصمد هذه اللحظة التي بقيت في حياتي .

وبسبب الحالة الصحية التي وصل اليها فقد رأى أولو الامر ان ينفذ الحكم في فناء السجن ، لا في قلعة شاتيون ، كما كان مقررا .

            والتفت الى القضاه الذين حكموا عليه وقال لهم :

-         لقد اردتم حضور هذا المشهد . ابقوا اذاً حتى النهاية .

وعندما طلب ان يسمح له باعطاء الامر ، هو ، للجنود المكلفين بالاطلاق النار ، رفض طلبه لانه " مخالف للقانون " .

عندما ، التفت الى هؤلاء وقال لهم :

-         انا اسامحكم . فأنتم غير مسؤولين . صوبوا نحو القلب . تحيا فرنسا

وقبل ان ينهي مرة ثانية عبارة " تحيا فرنسا " كان كل شيء قد انتهى . مات بيار لافال وكانت الساعة تشير الى الثانية عشرة والدقيقة الثانية والثلاثين ظهراً .  

 

  إشترك في القائمة البريدية

  إبحث في الموقع