المحكمة العليا
القضاة:
السيد/ علي يوسف الولي قاضي المحكمة العليا رئيساً
السيد/ هاشم محمد أبو القاسم قاضي المحكمة العليا عضواً
السيد/ الصادق عبد الله قاضي المحكمة العليا عضواً
حكومة السودان ضد المكاشفي طه الكباشي
م ع / ف ج/ 194/ 1406
المبادئ:
قانون جنائي: اجتهاد القاضي بحسن نية واعتماده على رأي أحد الفقهاء مع وجود القانون الوضعي وعدم وجود نص صريح في القرآن والسنة يعفيه من المسئولية الجنائية.
قانون جنائي: حصانة القاضي متى كان حسن النية-ترفع عنه في حالة التلبس بالجريمة أو سوء النية المادة 45 من قانون العقوبات لسنة 1983م.
2/ القاضي الذي يبني حكمة بحسن نية على رأي اجتهاده من بين آراء الفقهاء مع وجود القانون الوضعي بعد أن لم يجد نصاً صريحاً وارداً في القرءان الكريم ولسنة، على الرغم من أن القانون لم يخول له ممارسة هذه السلطات إلا أن لا يكون مسئولاً جنائياً على نحو مماثل لدى استعمال السلطات المخولة له قانوناً بشرط توفر حسن النية.
1/ ليس صحيحاً أن القاضي يتمتع بحصانة مطلقة وفقاً للمادة 45 من قانون العقوبات لسنة 1983/ بل الصحيح أن بحظي بالحصانة متى كان حسن النية، ولذلك فإن القاضي الذي يخطئ في حكمه عمداً يجرد ويسلب من حمايته وحصانته القضائية ومن ثم يصبح عرضة للمساءلة الجنائية والمدنية وفق التفسير الحرفي للعبارات الواردة بالمادة 45 وفق ما ورد في المذكرة التفسيرية.
المحامون:
محمد عبد الله مشاوي
أحمد عثمان الحاج
الحـكــــم
القاضي: على يوسف الولي:
التاريخ 30/10/1989
الوقائع:
هذا الطلب تقدم به لهذه المحكمة عن طريق الفحص الأستاذان محمد عبد الله مشاوي وأحمد عثمان الحاج محاميا الشاكي الفاتح عبد الرحمن أحمد ضد حكم محكمة استئناف الخرطوم المنشور في قضية حكومة السودان ضد المكاشفي طه الكباشي مجلة الأحكام القضائية سنة 1985 ص 147 والصادر بتاريخ 22/6/1985 والقاضي بشطب البلاغ رقم 6/35/1405 بمركز شرطة أم درمان الأوسط ضد القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي والقاضي أيضاً بإلغاء قرار قاضي جنايات أم درمان وسط الذي أمر بفتح البلاغ ضد القاضي السابق المذكور تحت المواد 138 و323 و 278 من قانون العقوبات 1983م وأسباب البلاغ كانت تتلخص في أن المتهم المذكور قد مارس سلطاته القضائية بسوء نية متجاوزاً بذلك البلاغ بسبب إدانة الشاكي المذكور في القضية رقم أ/ 82 /1984 أمام محكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان برئاسة المتهم القاضي السابق المذكور وعضوية العقيد سعد سيد أحمد والمقدم معاوية غندور تحت المادة 320(2) من قانون العقوبات سنة 1983 –جريمة السرقة الحدية وقضت عليه بقطع يده اليمنى من مفصل الكوع أي الكف والغرامة مبلغ 47.434 جنيه و628 مليماً وبعدم الدفع السجن لمدة ثلاثة سنوات وقد نفذت فيه عقوبة القطع في 1/6/1984م وكان الاتهام الوارد ضد الشاكي حالياً الفاتح عبد الرحمن أحمد والمتهم وقتئذٍ ينحصر تحت المواد 362و 351 و408 و410 من قانون العقوبات سنة 1983 وذلك لأخذه المبلغ المذكور من الخزينة العامة وتحويله لمنفعته الخاصة.
وتتحصل الوقائع في القضية رقم أ/82 /1984 في أن الشاكي المذكور في البلاغ بين أيدينا –كما ثبت لمحكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان –هو المحاسب المسئول في الفترة بين شهر 8/1980 إلي 12/1983 في مدرسة وادي سيدنا وهي الفترة التي حدثت فيها أخذ ذلك المبلغ المذكور ووضح للمحكمة أنه كان الشخص الوحيد الذي يقوم بإعداد كشوفات مرتبات المعلمين والعاملين بالمدرسة وإعداد فروقات علاواتهم وترقياتهم ويقوم أيضاً باستلام وتوريد أمنيات الكتب ويقوم كذلك بواجبات الصراف في صرف المرتبات خلال تلك الفترة كما ثبت أنه أدخل عدد أسماء تسعة أشخاص وهمية وأدراجهم في كشوفات المرتبات في خلال تلك الفترة المذكورة وكان يصرف تلك المرتبات بهؤلاء التسعة ويحولها لمنفعته الخاصة كما ثبت أم المذكور حول لمنفعته الخاصة فروقات المنحة والعلاوات والترقيات وفروقات أمنيات الكتب كما ثبت أن المحاسب المذكور يقوم بإعداد كشوفات المرتبات وإعداد فروفات العلاوات والترقيات ويقدمها لمدير المدرسة لاعتمادها والتصديق عليها.
وقد جاء في حيثيات محكمة الطورائ رقم (7) أم درمان في القضية رقم أ/82/1984 ما يلي:
(وترى المحكمة في تكييفها لهذا الفعل أنه جريمة سرقة حيث أن المتهم قد أخذ المال المختلس وبسوء قصد من حيازة شخص دون رضاه فالأخذ هنا قد وقع بناء على احتيال مارسه المتهم على مدير المدرسة بإدخال تسعة أشخاص وهميين ليسوا موظفين حقيقيين والأخذ عن طريق الاحتيال والمغافلة والتخلية والخلسة يعتبر صاحبه مختلساً في قول على الشريعة هو الذي يغافل صاحب المتاع أو يحتال عليه ويأخذ متاعه، وقد اعتبر القانون في المادة 320 (2) المختلس سارقاً لأن كلمة (أخذ) الواردة في نص المادة كلمة عامة مطلقة يدخل في المختلس والمنتهب والغاصب.
وقد قال أياس بن معاوية من فقهاء التابعين بقطع يد المختلس لأن المختلس يأخذ الشيء فيكون سارقاً وقد روى ذلك عن رسول الله (ص) كما ذكر بن رشد صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد وحيازة الدولة للممال تعتبر حيازة حقيقية لهذا المال المختلس كان في حيازة الدولة وقد أخذ بدون رضاه لأن مدير المدرسة لو علم أن هؤلاء الموظفين وهميين لما أذن بالصرف وصدق عليه كما أن المتهم لم يكن المال في حوزته قبل أخذه حتى يعتبر أمين عليه أو مسيطراً عليه بل احتال على مدير المدرسة حتى صدق بالصرف. كما أن ملكية الدولة للمال لا تعتبر شبهة يدرأ بها حد السرقة فقد قضى أئمة كبار بقطع يد سارق المال العام فقد روي عن الإمام مالك بن أنس دار الهجرة وابن المنذر وابن حزم أن السارق من المال العام تقطع يده ...........ولذلك يكون المتهم قد خالف نص الموارد (320) (2) السرقة الحدية والمادة (408) التزوير لأجل الاحتيال والمادة (410) استعمال محرر مزور على أنه صحيح من قانون عقوبات سنة 1983....ولذلك قضت المحكمة بقطع يد المختلس عملاً بما ذهب إليه الفقيه التابعي اياس بن معاوية وعملاً بنصوص القانون نفسه)....
ينعى محاميا الشاكي على حكم محكمة الاستئناف بأنه جاء مخالفاً لصريح قول الرسول الكريم "لا يضيع دم امرئ مسلماً هدراً" حيث قضت بشطب البلاغ ضد القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي الذي حكم بقطع يد الشاكي لارتكابه جريمة اختلاس المال العام وكان مخطئاً في حكمه وقد بنى حكمه الخاطئ على اجتهاده في حين أن القاعدة الأصلية تنص بأنه لا اجتهاد مع النص ومن ثم فإن اجتهاد رأيه في هذه الحالة لا يعفيه عن المساءلة القانونية على خطئه وقال محميا الشاكي في مذكرتهما لهذه المحكمة في هذا الصدد ما يلي:
(مع احترامنا لقرار محكمة الاستئناف إلا أننا نختلف معها تماماً في استنادها على أن المتهم المكاشفي طه الكباشي قد اجتهد ذلك لأنه قد فات على المحكمة الموقرة بأن لا اجتهاد مع النص....الاجتهاد لا يأتي إلا في حالة عدم وجود النص سواء في القرآن أو السنة أن الإجماع ولكن هل القرآن أو السنة أوجب قطع الخائن أو المختلس. بالرجوع إلي كتاب الله الكريم نجد صريح الآية التي أوجبت القطع فقط على السارق....هذا ما جاء في كتاب الله عز وجل فقال قطع إلا لسارق....من هنا كان المتهم أن يقف ولا يتدرج في مصادر التشريع الجنائي الإسلام إذ أن هذه الآية قاطعة الدلالة ولكن على فرض أنه أخذ بالسنة فإن الرسول الكريم قال بأنه ليس على الخائن أو المنتهب أو المختلس قطع....كما تقدم ومع وضوح النص فلم يكن هنالك موجب للاجتهاد وذلك فإننا نرى بأن وصف محكمة الاستئناف بأنه اجتهد فأخطأ فهذا تفسير يجافي روح الشرع والحق بل ويجهض مصادر التشريع الجنائي الإسلامي إجهاضاً إلي حد الإهدار غير المتوقع)...
ويرى محاميا الشاكي أن محكمة الاستئناف أخطأت أيضاً عندما شطبت البلاغ استناداً إلي الحماية القضائية الواردة في المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983 وقالا ما يلي:
(خلصت المحكمة إلي أن المتهم ينطبق عليه الشق الأول من المادة 45 لأن كان يمارس سلطات قضائية خولها له القانون كرئيس محكمة ينظر القضية المقامة ضد الشاكي وآخرين...ولهذا فلا مجال للحديث حول حسن نيته أو سوء قصده...أن محكمة الإستئناف....جزأت المادة إلي جزئين حتى خلصت إلي سوء النية أو حسن النية لا قيمة لها وهذا تفسير خاطئ لأن المادة القانونية وحدة واحدة ولو شاء المشرع تقسيمها إلي جزئين بالكيفية التي أخذت بها محكمة الاستئناف ...لكان المشرع قسمها...وعليه فإن استبعاد النية من المادة (45) فيما يختص بحالة المتهم المكاشفي فهو تغيب لاستلهام روح النص القانوني وأن محكمة الاستئناف ...قد أدخلت نفسها في مغالطة لا طائل منها وحتى على فرض صحة تقسيم المادة (45) إلي قسمين فإننا نعتقد بكل يقين بأن الشق الثاني ينطبق على حالة المتهم المكاشفي).
ويرى محاميا الشاكي أيضاً بأنه لا يمكن تطبيق مبدأ الحماية القضائية بموجب المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983م على فعل المتهم القاضي السابق في مرحلة التحري بل يجب إرجاء ذلك والنظر فيه في مرحلة المحاكمة لدى محكمة الموضوع فقلا ما يلي:
(ذكرت محكمة الاستئناف في قرارها بأن الدفع بالحماية القضائية استناداً إلي نص المادة (45) من قانون العقوبات يمكن أن يثار في هذه المرحلة أي مرحلة التحري... في تقدينا أن هذا فهم يخالف الواقع القانوني...لأن المادة (45) إحدى الدفوع المهدرة للمسئولية الجنائية لذا فإن أثارتها في هذه المرحلة ليس بذي جدوى ذلك لأنها تتعلق بإهدار المسئولية الجنائية لهذا يجب إثارتها في مرحلة المحاكمة أي بمعنى آخر يجب أن يستمر التحري وتقديم البلاغ للمحكمة وأن ما توصلت إليه محكمة الاستئناف كان يجب أن تصل إليه محكمة الموضوع).
وينعى أيضاً محاميا الشاكي على حكم محكمة الاستئناف بأنه لم يطرح وجهة نظر الشريعة الإسلامية السمحاء حول الحصانة القضائية بل استندت إلي القانون الإنجليزي والهندي والأمريكي وذلك عندما جاء في مذكرتهما الملحقة ما يلي:
(نلاحظ أن محكمة الاستئناف الموقرة لجأت للقانون الإنجليزي والهندي والأمريكي أي قانون الكفار والمجوس يا ترى هي يرضى ذلك المكاشفي كي ينجده في حالة الشدة قانون المجوس والملحدين؟؟؟).
الأسباب:
باستقراء مذكرة محكمة الاستئناف وأوراق محاكمة الشاكي في هذا البلاغ الذي نحن بصدده الفاتح عبد الرحمن أحمد-بالنمرة أ/82/1984 التي أجرتها محكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان برئاسة المتهم في هذا البلاغ القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي وبالاطلاع على مذكرة الفحص وملحقها اللذين تقدم بهما لنا محاميا الشاكي / أرى أن حكم المتهم القاضي السابق المذكور بقطع يد الشاكي المذكور أنه ثبت لمحكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان بأن الشاكي المذكور حول لمنفعته الخاصة مبلغ 47.434 جنيه و 628 مليماً من المال العام أي مال الدولة- فعل لا جريمة فيه بمقتضى نص المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983 ومن ثم أرى شطب طلب الفحص وتأييد حكم محكمة الاستئناف موضوع الفحص والقاضي بشطب أمر قاضي الجنائيات الذي قضى بفتح البلاغ المذكور ضد المتهم القاضي السابق المذكور.
سأناقش مبدأ الحصانة القضائية الواردة في المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983م على ضوء الشريعة الإسلامية الغراء والقانون الإنجليزي باعتباريهما المصدرين الأساسيين القانونيين لهذه المادة لأبين أن القاضي ورئيس محكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان السابق المكاشفي طه الكباشي لا يخضع للمساءلة القانونية والجنائية بسبب الحكم الذي قضى به أثناء مباشرته لسلطته القضائية بصفته رئيسً لمحكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان بمقتضى تلك المادة.
بادئ ذي بدء ينبغي أن أقرر –خلافاً لما يرى محاميا الشاكي-أن مجرد البدء في إجراءات فتح البلاغ أو تحريكها في مواجهة القاضي يعني مساءلته القانونية الجنائية لما يتعرض إليه القاضي من قبض ووضع في الحراسة رهن التحقيق وتفتيش وغير ذلك من الإجراءات الجنائية التي تهدر حريته وتقيدها وتؤذي كرامته وتجرح كينونته وذاتيته كإنسان وعليه فإن النظر بأن إثارة رفع الحصانة القضائية يجب أن يرجأ إلي بدء مرحلة المحاكمة وأنه لا يتعين ألا يثار في مرحلة التحريات نظر لا يمثل القانون الواجب الاتباع ذلك لأن حصانة القاضي تدرأ عنه من أول وهلة إجراءات البلاغ ضده والمثول أمام الشرطة كما تدرأ عنه أيضاً إجراءات محاكمته الجنائية والمثول أمام القضاء ما لم يرفع الشرطة كما تدرأ عنه أيضاً إجراءات محاكمته الجنائية والمثول أمام القضاء ما لم يرفع السيد رئيس القضاء الحصانة لتلبس القاضي بالجريمة أو لأسباب موضوعية أخرى تتعلق بإنجاز علمه القضائي بعد إجراء التحقيق اللازم وفقاً لقانون السلطة القضائية.
قد عرف الإسلام الحصانة القضائية منذ زمن طويل ومارس القضاة أعمالهم تحت مظلتها بضوابط معينة وأطر محددة فقد جاء في كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام تأليف العلامة برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن الإمام شمس الدين أبي عبد الله بن فرحون اليفمري المالكي الطبعة الأولي ص 129-130 في حصانة القاضي وتشددها ما يلي:
(قال القاضي أبو إسماعيل ويحمل القضاء على الصحة ما لم يثبت الجور وفي التعرض لذلك ضرر بالناس ووهن للقضاة فإن القاضي لا يخلو من أعداء يرمونه بالجور فإذا مات أو عزل قاموا يريدون الانتقام منه بنقض أحكامه فلا ينبغي للسلطان أن يمكنهم من ذلك).
وجاء في نفس كتبا تبصرة الحكام الجزء الأول ص36 ما يلي:
(وقال ابن القاسم في القاضي يعزل فيدعي الناس أنه جار عليهم أنه لا خصومة بينهم وبينه ولا ينظر فيما قالوا عنه ألا يرى الذي بعده جوراً بيناً فيرده ولاشيء على القاضي).
وجاء في نفس كتاب تبصرة الحكام الجزء الأول ص 62 ما يلي :
(ولا ينبغي أن يمكن الناس من خصومه قضاتهم لأن ذلك لا يخلو من وجهين إما أن يكون عدلاً فيستهان بذلك ويؤذي وإما أن يكون فاسقاً فاجراً وهو ألحن حجته ممن شكاه فيبطل حقه ويتسلط ذلك القاضي على الناس).
أما في القانون الإنجليزي نجد أن الحصانة القضائية ضاربة في جذوة من زمن بعيد أيضاً قال اللورد ديننج في كتابه "الوسائل القانونية السليمة" تعريب هنري رياض قاضي المحكمة العليا وعبد العزيز صفوت ص 87-99 ما يلي:
(وعلى أن أبدأ بالقضاة أنفسهم فهم أيضاً ليسوا معصومين وهم عرضة للخطأ بما يسبب الظلم ... يمكن في أغلب الأحوال تصحيح خطأ القاضي بالاستئناف ... وقد تكون هذه الأخطاء ناجمة عن الجهل أو القصور وقد تؤدي إلي إصابة الخصم بالخسارة المالية أو القلق أو الضرر .......ذلك أن أحداً لا يخطر له على بال مساءلة القاضي شخصياً عن خطأ برئ ولكن لنفترض أن قاضياً أخطأ بسبب سوء الدراية ونجم عن ذلك أن حبس شخص خطأ في السجن ، فهل تجوز مقاضاة القاضي شخصياً عن الأضرار؟...(منذ 1613-أن لم يكن قبله-والإجماع منعقد في ظل القانون على عدم جواز قبول دعوى ضد القاضي بسبب أي فعل أو قول يقع منه أثناء ممارسته لسلطاته المخولة له)...
فالألفاظ التي يتفوه بها مشمولة بحصانة مطلقة والأوامر التي يصدرها والعقوبات التي يوقعها لا يحص أن تكون محلاً لدعوى مدنية ضده ولا يؤثر في شئ أن القاضي كان قد وقع في خطأ جسيم أو جهل بالغ...إذ لا يجوز مساءلته عن كل ذلك وإنما يكمن العلاج في لجوء الطرف المضرور إلي محكمة الاستئناف لطلب إطلاق السراح أو استصدار أمر لاستبعاد القرار أو الخطأ أو أن تتخذ الخطوة اللائمة لتقض حكم القاضي,
ولا شك أنه إذا كان القاضي قد تلقى رشوة أو أنحرف أيسر انحراف أو افسد سير العدالة فنه يجوز معاقبته أمام محاكم الجنايات وباستثناء ذلك فإن القاضي على أي حال لا تصح مقاضاته في دعوى التعويض ، وليس وراء ذلك تمتع القاضي بأي حصانة أو امتياز لارتكاب الأخطاء أو الظلم وإنما السبب تمكينه من أداء واجبه في استقلال تام، متحرراً من الخوف وقد أفصح عن ذلك بجلاء رئيس القضاء اللورد تنتردين في قضية جانيت ضد فيرناند 1827 حيث قال:
(أن هذا الإنفلات من الدعوى والتحلل من المساءلة قد اسبقه القانون على القاضي لدى نظره لقضايا الأفراد رعاية للصالح العام وحسن سير العدالة أكثر منه إكراماً للقضاة الذين يتحررهم من مغبة الدعاوى يضمنون حرية الفكر واستقلال القرار كما ينبغي من يتصدى لتسير العدالة).
وهذه المقولة لا تنطبق على قضاة المحاكم العليا فحسب بل على كل القضاة على اختلاف درجاتهم علياً ودنياً ....ففي هذا العصر الحديث أحب أن تكون شرعتي ومناهجي على النحو التالي:
(ليس لقضاة المحاكم العليا –من ناحية-أي حق في الحصانة أولى من حق قضاة المحاكم الدنيا فكل قاضي في هذه البلاد محكمته عليا كانت أم دنيا يجب أن يتمتع بنفس الحصانة وأن يخضع لنفس المساءلة فإذا كان السبب الكامن وراء هذه الحصانة هو ضمان أن يكون للقضاة حرية الفكر واستقلال القرار فإن هذا الأمر ينطبق على كل قاضي مهما كانت درجته فيجب حمايته من المسئولية عن التعويض متى كان ذلك ناشئاً عن عمله القضائي...وينبغي أن يمكن كل منهم من أداء واجبه في استقلا تام وتحرر من الخوف فليس عليه أن يقلب في صفحات مراجعه وجلا مرتعش الأوصال قائلاً:
"أتراني لو فعلت كذا مسئولاً عن الأضرار".
فطالما أدى القاضي واجبه باعتقاد صادق أن يمارس سلطاته المخولة له فإنه لا يكون محلاً لمساءلة بدعوى مدنية.
وقد يخطئ في الوقائع وقد يجهل حكم القانون وقد يتجاوز حدوده اختصاصاه ولكن ما دام يعتقد صادقاً أن الأمر داخل في اختصاصه فلا يجوز مساءلته فمتى أخذ بمثل هذا الاعتقاد الصادق فلا يكون عرضة للمسئولية ولا يجوز تكديره بالادعاءات القائمة على سوء القصد أو خبث الطوية أو التحامل أو ما شابهها وقد جرى العمل وما زال يجري على رفض الدعاوى القائمة على مثل هذه المزاعم. ولا شئ يجعل القاضي محلاً للمساءلة إلا إذا ثبت أنه تصرف على نحو غير قضائي علاماً بانعدام اختصاصاه بهذا التصرف...
أما الحصانة القضائية عندنا في السودان ضد مساءلة القاضي جنائياً عن الأخطاء التي يقترفها أثناء أداء عمله القاضي كمحكمة أو كعضو في محكمة تنص عليها المادة 45 من قانون العقوبات 1983 م كالآتي:
(فيما عدا حالات القتل الخطأ لا جريمة فيما يقع من الشخص عند مباشرته أعمالاً قضائية بصفته محكمة أو كعضو في محكمة مستعملا ً أية سلطة يخوله أياه القانون أو يعتقد بحسن نية أن القانون يخوله إياه)
ينطبق هذا النص كما قال الدكتور محمد محي الدين في كتابه قانون العقوبات السوداني معلقاً عليه بصفحة 66:
(على كل من يباشر القضاء كمحكمة أو كعضو في محكمة فيما يؤديه من أعمال قضائية في الجلسة أو في مكتبه ويدخل في ذلك القضاة......المحاكم المدنية والجنائية والشرعية ......والمحاكم المحلية الشعبية......والمجالس العسكرية وأعضاء هذه المحاكم)...
أجدني لا أرى كما ترى محكمة الاستئناف بأن القاضي وفقاً لنص المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983 يتمتع بحصانة قضائية مطلقة بلا ضوابط ولا قيود في قولها على صفحة 178 من المجلة القانونية آنفة الذكر.
(والحماية التي نصت عليها المادة 45 من قانون سنة 1983 هي حماية كاملة وشاملة لكل ما يصدر من أحكام وقرارات قضائية ولا ستثنى منها إلا حالة القتل الخطأ).
وذلك لأن حسن النية وفقاً لنص المادة 37 من قانون العقوبات سنة 1983م لابد من توافره على كل حال على النحو الذي سوف أبينه فيما بعد لدرء المسئولية الجنائية عن القاضي كما اختلف مع محكمة الاستئناف حول تقسيمها للحالات التي تنص عليها المادة 45 من قانون العقوبات 1983م كما اختلف معها أيضاً حول الحالة التي استظل بظلها القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي من حالات الحماية القضائية الواردة في المادة المذكورة فقد قالت محكمة الاستئناف على صفحتي 178-179 من المجلة القانونية المذكرة الآتي:
(و بما أن الحالة التي أمامنا ليست حالة حكم بالإعدام فإنها مشمولة بالحماية القضائية المنصوص عليها في المادة 45 من قائل بأن المتهم لم يكن حسن النية عندما أصدر حكمه موضوع الشكوى ولكن مسألة حسن النية وسوء النية أو القصد لم ترد في الشق الأول من المادة 45 من قانون العقوبات والتي تنقسم إلي شقين أساسيين أولهما شخص يباشر أعمالاً قضائية بصفة محكمة أن عضو محكمة ويعتقد مجرد اعتقاد بحسن نية أن القانون يخوله تلك السلطات.
في الحالة الأولى يمارس الشخص سلطات يخوله إياه القانون وفي هذه الحالة مسألة حسن النية كشرط غير واردة حتى يطلب إثباتها طالما كان الشخص يمارس أعمالاً قضائية خولها له القانون-الحماية في هذه الحالة مطلقة.....ولكن في الحالة الثانية وحينما يباشر أعمالاً قضائية دون أن يخوله القانون إياه لا يستفيد من الدفع بالحماية القضائية ما لم يكن يعتقد بحسن نية أن القانون يخلوه مباشرة تلك الأعمال. والحالة الماثلة أمامنا ينطبق عليها الشق الأول من المادة 45 من قانون العقوبات ذلك لأن المتهم كان يمارس سلطات قضائية خولها له القانون كرئيس محكمة مختصة وينظر القضية الجنائية المقامة ضد الشاكي وآخرين ولهذا فلا مجال للحديث حول حسن نيته أن سوء قصده)....
فإني أرى أن الحالات الواردة في المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983 هي ثلاثة كآلاتي:
1/ خطأ القاضي المتعمد الإرادي الاختياري عندما يباشر أعمالاً قضائية بصفته محكمة أو عضو في محكمة.
2/ خطأ القاضي غير المتعمد وبحسن نية عندما يستعمل سلطات يخولها له القانون بصفته محكمة أو عضو في محكمة.
3/ خطأ القاضي غير المتعمد في حالة استعماله سلطات لم يخولها له القانون كمحكمة أو عضو في محكمة ولكن يعتقد بحسن نية أن القانون يخوله إياها.
1/ الخطأ الإرادي الاختياري :
في هذه الحالة يباشر القاضي أعمالاً قضائية بصفته محكمة أو كعضو في محكمة ولكن يقع عمداً في خطأ بإرادته واختياره أي يتصرف بسوء قصد كما تنص على ذلك المادة 18 من قانون العقوبات سنة 1983 كالآتي:
(يقال عن الشخص أنه فعل شيئاً بسوء قصد إذا فعله بقصد الحصول على كسب غير مشروع لنفسه أو لغيره أو بقصد تسبيب خسارة غير مشروعة لشخص آخر).
فالقاضي يخطئ عمداً في حكمه عندما يجور ويشطط ويأتي حكمه منطوياً على الظلم والحيف واتباع الهوى وعدم النزاهة بسبب الفساد والرشوة و المحسوبية فيبرئ مذنباً ويدين بريئاً ويحل حكمه حراماً ويحرم حلالاً أي يجئ حكمه مخالفاً للقرآن والسنة ومجافياً للقانون الوضعي ويقول الله عز وجل محذراً نبيه القاضي داؤود عليه السلام في سورة (ص) الآية (26) من مغبة اتباع الهوى عندما يكون ذلك دافعاً للحكم:
(يا داؤود أنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.)
والقاضي إذا جار وفسد وظلم لزمه الشيطان فقال نبينا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:
(إن الله مع القاضي إذا لم يجر وإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان).
وقال صلى الله عليه وسلم محذراً القاضي الجائر الظالم الفاسد:
(من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين)
وقال أيضاً:
(قاضيان في النار وقاضي في الجنة).
فليس هناك حصانة للقاضي الذي يخطئ في حكمه عمداً بل يجرد ويسلب من حمايته وحصانته القضائية ومن ثم يصبح عرضة للمساءلة الجنائية والمدنية معاً فقد ورد في المذكرة التفسيرية لقانون العقوبات سنة 1983م الفقرة الثانية ما يلي:
(أما الأفعال العمدية غير المبررة قانوناً فلا حصانة فيها لأحد)
وجاء في كتاب تبصرة الحكام المشار إليه سابقاً ص63 في القاضي الجائر والظالم ما يلي:
(وفي مختصر الواضحة وعلى القاضي إذا أقر بأنه حكم بالجور أن ثبت ذلك عليه بالبينة العقوبة الموجهة ويعزل)...
وقال الأستاذ معوض محمد مصطفى سرحان رئيس قسم الشريعة بكلية الخرطوم والمندوب من كلية الحقوق بجامعة فاروق الأول سابقاً في كتابه "المرافقات الشرعية" الطبعة الأولى 1371هـ 1952م ص249 ما يلي:
(أ/ا إذا قضي القاضي بالجور عمداً وأقر به فالضمان في ماله... في جميع الوجوه ويعزر القاضي ويعزل)....
والقاضي كما تنص المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983م –لا يستطيع أن يستظل بمظلة حصانته القضائية إذا ما أخطأ عمداً وهو يباشر سلطاته القضائية وقضى بالقتل فيقول الله تعالى في محكم تنزيله في الآية (93) من سورة النساء:
(ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً).
وجاء في كتاب التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي تأليف عبد القادر عودة الجزء الثاني ص74 ما يلي:
(والقاضي إذا حكم بالإعدام على شخص ظلماً وهو عالم بذلك ومتعمداً اعتبر قاتلاً للمحكوم عليه عمداً)...
ففي البلاغ الذي بين أيدينا والشاكي فيه الفاتح عبد الرحمن أحمد والمتهم فيه القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي ليس هنالك أدني دليل على أن المتهم المذكور عندما حكم على الشاكي عندما كان يباشر سلطاته القضائية بقطع يده أخطأ في حكمه عمداً إرادياً وبسوء قصد وفقاً لمفهوم المادة 18 من قانون العقوبات سنة 1983 كما أن الاتهام نفسه الموجه ضد المتهم المذكور لا يتعلق بعقوبة القتل وإنما بعقوبة قطع يد ومن ثم فإن المتهم المذكور ليس هنالك ما يبرر مساءلته الجنائية تحت الحالة الأولي من الحالات المنصوص عليها في المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983.
2/ الخطأ غير المتعمد وبحسن نية في حالة استعمال السلطات المخولة قانوناً:
في هذه الحالة يباشر القاضي أعمالاً قضائياً بصفته محكمة أو كعضو محكمة ويستعمل سلطات خولها إياه القانون ولكن يقع في خطأ بسحن نية-فالقاضي هنا يحكم وفقاً للقانون ولكن حكمه ينطوي على خطأ عادي ومألوف صدر منه بحسن نية وأن ذلك الخطأ يمكن علاجه وتداركه وتلافيه عن طريق الاستئناف والفحص وإعادة النظر والإلغاء والتعديل والتبديل بواسطة المحكمة الأعلى وليس في هذه الحالة ما يبرر تحريك إجراءات جنائية أو مدنية ضد ذاك القاضي فقد قال القاضي هنري رياض قاضي المحكمة العليا في القضية الدستورية (1) أسماء محمود محمد طه عبد اللطيف عمر حسب الله ضد حكومة جمهورية السودان مجلة الأحكام القضائية سنة 1986 ص192 ما يؤيد هذا النظر فيما يلي:
(يثور التساؤل أشد إلحاحاً وإحراجاً هل يجوز رفع دعوى جنائية ضد القاضي الذي أصدر الحكم وهو يؤدي وظيفته كقاضٍ؟ وفي أي الحالات يجوز تحريك الإجراءات الجنائية ضده؟
لا شك إن القاضي كبشر ليس معصوماً عن الخطأ فإن أخطأ في الإجراء أن في التقدير الخطأ العادي المألوف فإن القانون يصوبه عن طريق الطعن إلي محكمة استئنافية أو عليا أي إلي محكمة أو محكمتين أعلى درجة وفق ما هو معروف ومألوف ومقرر في كل النظم القانونية الحديثة في العالم)...
فأرى أن محكمة الاستئناف قد جانبها التوفيق عندما قررت أن هذه الحالة التي يمارسها فيها القاضي سلطات يخولها إياه القانون تجئ حصانته القضائية مطلقة بلا قيود وقد رفضت توافر حسن النية كشرك لتلك الحصانة في حين أن ذلك واضح في النص القانوني الوارد في المادة 45 من قانون العقوبات كالآتي:
(لا جريمة فيما يقع من الشخص عند مباشرته أعمالاً قضائية بصفته محكمة أن كعضو في محكمة مستعملاً أية سلطة يخوله إياه القانون أو يعتقد بسحن نية أن القانون يخوله إياها)...
فجملة "بحسن نية" اكتفى المشرع بوضعها هذا بدلاَ من تكرارها لتكون واقعة بين كلمتي (مستعملاً وأية) ولو فعل المشرع ذلك لجاء النص بلغة ركيكة غير سائغة ولذا اكتفي بوضع جملة (بحسن نية) في وضع واحد من النص ولذا عندما يمارس القاضي سلطات قضائية خولها له القانون لا بد أن يمارسها بحسن نية وفي القانون "حسن النية" يعنى بذل العناية والاهتمام والانتباه والاهتمام والحرص والتثبت والتروي والحيطة والحذر فقد نصت المادة 37 من قانون العقوبات سنة 1983م بالآتي:
(لا يعقب الدفع بحسن النية عند فعل الشيء أو الاعتقاد فيه إذا حصل الفعل أو الاعتقاد بغير ما يجب بذله من عناية وانتباه)...
وفي قضية حكومة السودان ضد محمد أحمد نور الجليل نشرة الأحكام الشهرية يناير-فبراير-مارس سنة 1979ص209 قضت المحكمة العليا بأن حسن النية يقتضي بذل العناية والانتباه.
وقد ربط نص المادة 37 من قانون العقوبات سنة 1983م معنى "حسن النية" بالإهمال وجوداً وعدماً بحيث أن الفعل لا يكون بحسن نية إذا ما يعوزه بذل العناية والانتباه والحيطة والحذر والحرص والتثبت فقد جاء في كتاب القانون الجنائي السوداني-النظرية العامة للمسئولية الجنائية للدكتور عبد الله أحمد النعيم الطبعة الأولى 1986 ص93 ما يلي:
(وتشترط المادة 37 من قانون العقوبات للسلوك بحسن نية أن يكون قد تم بما يجب بذله من عناية وانتباه فليس للمتهم أن يزعم أنه تصرف بحسن نية لمجرد أنه لم ينبعث من قصد أو علم إجرامي أو لان أغراضه كانت برئيه أو نبيلة وإنما يجب أن يتسم سلوكه نفسه بالعناية والانتباه)...
وجاء في كتاب قانون العقوبات السودان معلقاً عليه المشار إليه آنفاً على ص 49 في شرح المادة 37 عقوبات ما يلي:
(لا يقال بأن الفعل قد أتاه الشخص بحسن نية ألا إذا كان قد أتاه مع العناية والانتباه اللازمين وعلى ذلك فالإهمال وعدم الاكتراث لا يتوافر معهما حسن النية).
والقاضي الذي يسبب حكمه على الوجه الأكمل السليم بأن يدعمه بالأسانيد والحجج والمسوغات والبراهين والمراجع الشرعية والقانونية الفقهية وبما جرى وأجمع عليه القضاء في المحاكم العليا-لا شك أن ذلك القاضي يحكم بحكم جاء "بحسن نية" أي بذل القاضي في حكمه العناية والاهتمام والحيطة والانتباه دون إهمال ولكنه يجوز مساءلة القاضي إذا أرتكب خطأ في حكمه ما كان له أن يرتكبه فيما لو أتخذ الحرص الكافي والتثبت التام والعناية الفائقة والاهتمام البالغ.
ولكن في هذا البلاغ الذي بين أيدينا لا تشمل هذه الحال الثانية من حالات المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983م حالة المتهم القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي لأن الاتهام ضده هو انه استعمل سلطات لم يخولها إياه القانون ولم يحكم وفقاً للقانون بل تجاوز سلطاته مما جعله يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون ومن ثم لا أرى حاجة بي لمناقشة تلك الحالة فيما يتعلق بمساءلة المتهم المذكور جنائياً.
3/ الخطأ غير المتعمد في حالة استعمال السلطات التي خولها القانون مع وجود حسن النية بأن القانون يخولها:
في هذه الحالة يباشر القاضي أعمالاً قضائية بصفته محكمة أو كعضو في محكمة ويستعمل سلطات لم يخولها إياه القانون ولكن يعتقد بحسن نية أن القانون يخوله تلك السلطات ويقع في خطأ غير متعمد - فالقاضي هنا يأتي بفعل على خلاف ما يقضي به القانون معتقداً بحسن نية أن القانون يخوله تلك السلطات ويقع في خطأ غير متعمد - فالقاضي هنا يأتي بفعل على خلاف ما يقضي به القانون معتقداً بحسن نية أي دون إهمال ومع التثبت والتحري والتحقيق بأنه متسق مع القانون ويشكل ذلك خطأ غير متعمد أو أن يأتي القاضي بفعل غير مخول له قانوناً كأن يحكم بعقوبة ليس خولاً له الحكم بها طبقاً للقانون يشكل بذلك خطأ غير متعمد.
فالقاضي الذي يبني حكمه على رأي اجتهادي من بين آراء فقهاء الشريعة الإسلامية السمحاء مع وجود القانون الوضعي بعد أن لم يجد نصاً صريحاً وارداً في القرآن الكريم والسنة المطهرة فإنه يمارس سلطات لم يخولها له القانون ولكننا نحسبه أنه اعتقد "بحسن النية" وفقاً لنص القانون المادة 37 من قانون العقوبات سنة 1983 على نحو ما سلف بيانه-أن القانون يخول له ممارسة تلك السلطات لان "الاجتهاد في حد ذاته في معناه الموضوعي هو بذل العناية والاهتمام في التمحيص والتنقيب في الآراء الفقهية الشرعية المختلفة فهو الفهم فيما يختلج في صدر المجتهد مما لم يبلغه في القرآن والسنة ثم يقيس المجتهد المسائل فيعمل إلي أحبها إلي الله تعالى عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وصدقها واستقر إليها وركن لها الضمير الحي والوجدان السليم وأشبهها بالحق والعدل والإنصاف فيما يرى المجتهد وقد جاء في المذكرة التفسيرية لقانون العقوبات سنة 1983 ما ستنفر القضاة إلي تأسيس الأحكام على الآراء الاجتهادية في المسائل التي لم ينص عليها القانون نفسه كالآتي:
(وجدير بالذكر أنه وبموجب حكم المادة 458(3) يجوز للمحكمة توقيع أي عقوبة إذا تبين لها وقوع مخالفة حد شرعي حتى ولو لم ينص على ذلك صراحة في القانون ذلك أن الشرع قديم وأن القانون هو مجرد عون يستهدي به لاستكشاف أحكام الشريعة الإسلامية فهي الأصل وهذا القانون مجرد دليل عليها)...
فالقاضي المجتهد الذي الذي قاده اجتهاده إلي الأخذ بأحد الآراء المختلف عليها بين الفقهاء فإن قضاءه مجمع على صحته طبقاً للقاعدة القائلة بأن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية يرفع الخلاف فهو اجتهد أي بذل العناية اللازمة لإصدار حكمه في تثبت وتروي فقد قال الأستاذ معوض محمد مصطفي سرحان في كتابه المشار إليه آنفاً على ص 237-238 ما يلي:
(حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية يرفع الخلاف، بمعنى أن القاضي إذا كان مجتهداً فأداه اختاره إلي اختياره إلي اختيار رأى من الآراء لم يكن لغيره من القضاة إذا رفع إليه هذا الحكم أن ينقضه ولو كان مخالفاً لرأيه بل عليه أن ينفذه لكونه قضاء مجمعاً على صحته، لما علم أن الناس على اختلافهم في المسألة اتفقوا على أن القاضي أن يقضي بأي قول مال إليه اجتهاده فكان قضاء مجمعاً على صحته ولأنه ليس على الثاني دليل قطعي بل اجتهادي وصحة قضاء القاضي الأول تثبت بدليل قطعي وهو إجماعهم على جواز القضاء بأي وجه اتضح له ولأن الضرورة تقتضي بلزوم القضاء المبني على الاجتهاد وأنه لا يجوز نقضه إذا لو جاز نقضه برفعه إلي قاضي آخر يروي خلاف رأي القاضي الثاني فينقض وهكذا فيؤدي إلي إلا تندفع الخصومة والمنازعة أبداً والمنازعة سبب الفساد وما أدى إلي الفساد فساد)....
وكان قضاء سيدنا داؤود وابنه سيدنا سليمان عليهما السلام من طريق الاجتهاد فجاء على ص270 من المجلد الثاني من كتاب صفوة التفسير تأليف محمد على الصابوني في تفسير الآيتين من سورة الأنبياء وداؤود وسليما إذ يحكمان في الحرث إذ تفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلما (79) ما يلي :
(قال المفسرون: تخاصم إلي داؤود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته لم يتبق منه شيئاً فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فاخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال : يا نبي الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع! قال وما هو قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها فإذا خرج الزرع ردت الغنم إلي صاحبها والأرض إلي ربها فقال له داؤود: وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك قوله تعالى "ففهمناها سليمان".....
قال الحسن :
(لو لا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعذر داؤود باجتهاده)...أنظر كتاب تفسير القرآن زاد المسير في علم التفسير " للإمام أبي الفرج عبد الحمن بن الجوزي الجزء الخامس ص372.
فقال أبو سليمان الدمشقي :
(كان قضاء داؤود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد ولم يكن نصاً إذ لو كان نصاً ما اختلفا) أنظر كتاب زاد المسير وعلم التفسير المذكور - الجزء الخامس حتى 372.
والقاضي المجتهد أي من استنبط حكمه بحسن نية وفقاً لنص المادة 37 من قانون العقوبات سنة 1983م في المسألة المختلف عليها بين الفقهاء فإن أصاب فله أجران باجتهاد وأن أخطأ فله أجر باجتهاده في لب الحق فقال صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين:
(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وأن أصاب فله أجران).
وجاء في كتاب تبصرة الحكام المشار إليها سابقاً ص (10) في القاضي المجتهد ما يلي:
(وأما من اجتهد في الحق على علم فأخطأ فقد قال عليه الصلاة والسلام (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر).
وبمثل ذلك نطق الكتاب العزيز في قوله تعالى وداؤود وسليمان إذ يحكما في الحرث إذ تفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليما وكلاً آتينا حكماً وعلماً" فأثنى على داؤود باجتهاده وأثنى على سليمان بإصابته وجه الحكم).
والاجتهاد فيما لم يوجد في القرآن العظيم والسنة الشريفة ينبغي تشجيع القضاة للتوجه إليه وممارسته ومقاييسه وأطره فقد قال عمر بن الخطاب أمير المؤمنين في كتابه لعامله في الإقليم أبي موسى الأشعري ما يلي:
(الفهم الفهم فيما يتأجج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور على ذلك ثم أعمد إلي أحبها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق) أنظر كتاب نماذج التراث الإسلامي حكم وإدارة-قضاء وقضاة-الأديب جعفر حامد البشير ص94.
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه أيضاً في حديثه إلي القاضي شريح حينما عينه قاضياً:
(أنظر ما في كتاب الله وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي فما قضى به أئمة العدل... أنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيت وإن شئت تؤامرني (تشريني) ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا ما هو أسلم لك)....
أنظر نفي كتاب نماذج من التراث الإسلامي ص(102) فقد كان توجيه سيدنا عمر للقاضي شريح أن يجتهد رأيه وكان عمر مستأنساً في ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إلي معاذ بن جبل الذي بارك فيه اجتهاده رأيه في الحكم في حالة عدم وجود النص في كتاب الله وسنة رسوله وأضاف عمر هنا توجيه القاضي شريح للارتكاز في أحكامه على ما قضى به أئمة العدل قبله أي القضاء والفقهاء قبله.
وقال الأستاذ العالم دفع الله الحاج يوسف رئيس القضاء الأسبق في الإشادة بالقاضي المجتهد ما يلي:
(كل قضاء يصدر عن قاضي هو اجتهاد لتطبيق فرض الله وسنة نبيه أما بحكم قطعي أو سنة ثابتة أو قياس صحيح يستنبط القاضي الحكم وفق طرائق الاستنباط التي استقرت وضوابطها الدقيقة وهو في كل ذلك ينهل من تراث فقهي لا مثيل له من حيث الإحاطة والشمول والعمق وتعدد الأحكام في الواقعة الواحدة التي نشئت من اختلاف الظروف الزمنية والمكانية والأعراف أو من فهم المجتهد لما تضمنه النصوص لذلك لا بد أن يمتلك القاضي القدرة على الموازنة والترجيح والفهم الدقيق لكل واقعة من الوقائع)...أنظر كتاب نماذج من التراث الإسلامي المذكور أعلاه ص 85.
فالقاضي الذي يبنى حكمه القاضي على رأي اجتهادي من بين آراء الفقهاء بصفته محكمة أو كعضو محكمة مع وجود القانون لا شك أنه استعمل سلطة لم يخولها إياه القانون ولكنه اعتقد بحسن نية أن القانون يخوله تلك السلطة لأنه اجتهد الاجتهاد الذي يعني بذلك العناية والبعد عن الإهمال بالبحث عن الرأي المناسب بين الآراء المتباينة وفق الوقائع المطروحة أمامه فالخطأ الوارد في ذلك التصرف بمخالفة القانون الوضعي بالاجتهاد خطأ غير متعمد ومن ثم يستظل القاضي المجتهد بظل الحصانة القضائية بالحالة الثالثة من الحالات الواردة في المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983م على نحو ما سلف بيانه ومن ثم لا يكون هذا القاضي عرضة للمساءلة الجنائية.
ففي القضية رقم أ/82/1984 التي كان المتهم فيها الشاكي الفاتح عبد الرحمن في هذا البلاغ الذي بين أيدينا إدانته محكمة الطوارئ رقم (7) أم درمان برئاسة المتهم في هذا البلاغ القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي بجريمة السرقة الحدية وقضت عليه بعقوبة قطع يده اليمنى بعد أن ثبت أمامها بأن الشاكي المذكور حول لمنفعته الخاصة بعض المال العام الذي كان مؤتمناً عليه فكانت الجريمة المناسبة التي يتعين-حسب قانون العقوبات سنة 1983م - أدانته بها هي جريمة خيانة الأمانة بواسطة الموظف العام تحت المادة 351 من قانون العقوبات لسنة 1983م وعقوبتها التعزير وبذلك فقد أخطأ المتهم المكاشفي خطأ غير متعمد عند استعماله سلطات لم يخولها له القانون ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ويثور ما إذا كان المتهم المكاشفي معتقدأً بحسن نية وفقاً لنص المادة 37 من قانون العقوبات سنة 1983 م بأن القانون يخول له تلك السلطة؟
الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب طالما إننا سنبين بأن المتهم المكاشفي طه الكباشي قد أسس حكمه على الرأي الاجتهادي وما قيل بأن ذلك الاجتهاد يجافي القاعدة التي تقضي بأنه لا اجتهاد مع النص فإن الرد عليه بأن النص المقصود هو النص الشرعي في القران الكريم والسنة المطهرة وليس النص الوضعي.
فقد كيف القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي فعل الشاكي الفاتح عبد الرحمن أحمد عندما حول الشاكي لمنفعته الخاصة بعضاً من المال العام الذي كان مؤتمناً عليه بوصفه محاسباً وصرافاً لمدرسة وادي سيدنا وقتذاك بأن جريمة سرقة حدية من الحكومة مرتكزاً على مذهب المالكية دون جمهور الفقهاء وذلك بعد أنه لم يجد في القرآن الشريف والسنة المطهرة نصاً يشير إلي أن السرقة بصفة خاصة من بيت المال تعتبر جريمة سرقة حدية عقوبتها القطع ولم يكن القاضي السابق المكاشفي مقيداً بقانون أو منشور بالالتزام بمذهب معين دون المذاهب الأخرى وكان أتباع القاضي السابق المكاشفي للمذهب المالكي في حكمه المذكور له ما يبرره لأن ذلك المذهب هو مذهب أهل السودان في جميع عباداتهم وأن ذلك المذهب يعتبر جريمة السرقة من المال العام جريمة حدية ولم ينص قانون العقوبات سنة 1983 على ذلك فعلاً فلا تثريب عليه وفقاً لما ورد في المذكرة التفسيرية لقانون العقوبات سالفة الذكر.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن أخذ المال العام خفية يشكل جريمة السرقة لعمومية النص الوارد في القرآن عن السرقة ولكن الخلاف بينهم وقع فيما إذا كانت تلك جريمة سرقة حدية عقوبتها القطع أم أنها جريمة سرقة غير حدية عقوبتها التعزير.
فقد قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل والشيعة الزيدية: من سرق من بيت المال-أي المال العام-أي مال الدول أو مال الحكومة بالتعبير الحديث لا قطع عليه لأنه مال العامة والسارق منهم لا بد له حقاً في هذا المال وقيام هذا الحق يعتبر شبهة الحق التي تدرأ عنه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم:
"أدروا الحدود بالشبهات"
وخالف الإمام مالك رضى الله عنه في ذلك فأوجب قطع السارق من بيت المال أي المال العام أو من مال المغنم وذلك لضعف الشبهة في بيت مال المسلمين التي تدرأ الحد. ونجد المادة 173 (1) و (2) من مشروع القانون الجنائي سنة 1988 أخذا برأي الإمام مالك تنص على تعريف جريمة السرقة الحدية التي شملت السرقة من المال العام كالآتي:
1/ يعد مرتكبا جريمة السرقة الحدية من يأخذ بقصد التملك من حيازة شخص دون رضاه مالاً منقولاً مملوكاً للغير شريطة أن يؤخذ المال من حرزه ولا تقل قيمته من النصاب.
2/ يشمل المال المملوك للغير المال العام وأموال الأوقاف ودور العبادة.
والمادة 174 (1) من نفس المشروع تنص على عقوبة جريمة السرقة الحدية كالآتي:
(من يرتكب جريمة السرقة الحدية يعاقب بقطع اليد من كف المفصل).
وعليه فإن مشروع القانون الجنائي سنة 1988 عملاً بالمذهب المالكي جعل أخذ المال العام بقصد التملك في حدود النصاب الشرعي دون رضا الدولة يشكل جريمة سرقة حدية عقوبتها قطع اليد من كف المفصل وهذا ما ينص عليه قانون العقوبات سنة 1983م صراحة.
أن القول بأن الشاكي الفاتح عبد الرحمن قد اختلس بعضاً من المال العام وعليه فإن توقيع عقوبة القطع عليه مخالفة واضحة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
(ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع).
يقودني إلي تبينا عدم صحة هذا النظر عندما أفرق بين معنى "السرقة" ومعنى "الاختلاس".
المختلس شرعاً هو من يأخذ المال مجاهرة معتمداً على السرعة وغفلة صاحب المال كالخطف من البيت أو من اليد فلا قطع وفقاً للحديث الشريف سالف الذكر وذلك لا مكان التحرز من خطره بالانتباه وأخذ الحذر أو الدفاع والمناهضة.
أما السارق هو يأخذ مال غيره خفية أي سراً وبدون علم فيصعب الاحتراز منه ولهذا شرع قطع يد السارق... فأخذ مال الغير خفية شرط أساسي في السرقة الحدية الموجبة للحد عند جمهور الفقهاء وقد خالف في ذلك إياس بن معاوية فأوجب القطع في الاختلاس بالمعني الشرعي المذكور.
ومهما يكن من أمر وحيث أن الشاكي الفاتح عبد الرحمن لم يختلس المال العام لأنه لم يأخذه بالقوة والمجاهرة والمكابرة بل سرقة لأنه أخذه خفية فإن عقوبة قطع يده لرأي المالكية على نحو ما أسلفت لا تجافي ما ورد في الحديث الشريف المذكور.
لهذه الأسباب جميعها أجد أنس المتهم القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي يستظل بظل الحصانة القضائية بالحالة الثالثة والأخيرة من الحالات الواردة في المادة 45 من قانون العقوبات سنة 1983م على نحو ما سلف بيانه ومن ثم فإنه لا يصبح عرضة للمسائلة الجنائية عما ترتب على حكمه الاجتهادي المؤسس على مذهب مالك من ضرر للشاكي الفاتح عبد الرحمن احمد.
وعليه أرى شطب محكمة الاستئناف للبلاغ رقم 6/35/1405هـ الذي أمر قاضي جنايات أم درمان وسط بفتحه ضد المتهم القاضي السابق المكاشفي طه الكباشي جاء في محله ويتعين تأييده.
القاضي: هاشم محمد أبو القاسم.
التاريخ 1/11/1989.
أوافق: لا يسعني إضافة أي شئ على هذه المذكرة الضافية التي جادت بها قريحة مولانا العالم على يوسف الولي ولم يترك أي وارده إلا أحصاها بالحجج والبراهين الدامغة المؤيدة لكافة المراجع الشرعية والقانونية الملزمة بموضوعية تامة لتكون نبراساً يحتذى بالنسبة لمثل ظروف هذه القضية.
القاضي: الصادق عبد الله.
التاريخ: 4/11/1989م
أوافـق: قد بذلت كل من هذه المحكمة ومن قبلها محكمة الاستئناف جهداً واضحاً ومقنعاً في معالجة هذا الطلب والطلبات السابقة له سواء من الوجه الشرعي أو الوضعي ولكيلا يكون هناك أدنى لبس في هذا الشأن فيجب لفت النظر إلي أن حكمي هذه المحكمة ومحكمة الاستئناف لا ولم يقصد بهما الفصل في صحة الحكم أو بطلانه شرعاً أو وضعاً إنما هذه الأحكام قد أمرت فقط بشطب البلاغ استناداً على الحصانة الشرعية والوضعية التي كان يتمتع بها القاضي موضوع الشكوى عندما اصدر أحكامه.