الخميس, 14 تشرين2/نوفمبر 2024
Blue Red Green

  • أخبار سريعة
أخبار قانونية: وفاة رئيس القضاء السوداني مولانا حيدر احمد دفع الله - السبت, 24 تشرين2/نوفمبر 2018 18:45
الرئيسية مواضيع قانوينة متنوعة وضع الطب الشرعي في السودان ـ مقترحات وتوصيات

وضع الطب الشرعي في السودان ـ مقترحات وتوصيات

 

د. محمود شعراني.

البريد الإلكتروني: ( عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ).


في السنوات الأخيرة كثر الحديث عن إهمال الأطباء وقصور المؤسسات الطبية وقلة الوعي وسط الأطباء خاصة من المتخرجين حديثاً في ما يخص علاقة الطب بالقوانين أو بالمسائل الطبية القانونية وفي اعتقادي أنّ هذا يعزى جزئياً إلى القصور في تدريس الطب الشرعي بكليات الطب عندنا وربما كان للضغوط التي يتعرض لها طالب الطب دور في هذا وهذه الضغوط

تتمثل في المقررات الأكاديمية الطبية التي يزيد حجمها بصورة مكثفة مما انعكس سلباً على تدريس الطب الشرعي، وبعض هذا الخطأ يجيئ من داخل الحقل الطبي نفسه فعلى مدى سنوات طوال ظلت كليات الطب تدرس الباثولوجيا الشرعية على حساب الطب الشرعي والباثولوجيا الشرعي هي تخصص عال ودقيق كجزء من الدراسات العليا في هذا المجال وهذا بالطبع ليس مطلوباً من معظم الأطباء بصورة كاملة، وأهمّ من ذلك هو الإلمام الواعي بالمثل الطبية والجوانب القانونية والإدارية المؤثرة على الممارسة الطبية السليمة، هنالك العديد من الكتب في مجال الطب الشرعي باللغتين العربية والإنجليزية ولكن معظمها يتحيز للباثولوجيا الشرعية ولي محاولة خاصة في إخراج كتاب عن الطب الشرعي، يكون شاملاً لكل جوانبه أحاول فيه إعطاء حيز كافي للتشريعات الحديثة والتقنيات الطبية الحديثة كالاستنساخ وزراعة الأعضاء والتلقيح الصناعي ومعايير التشخيص في الطب النفسي والتجارب الطبية والجوانب القانونية في عنصر الرضا في الممارسة الطبية وكتابة التقارير الطبية ومثل وأخلاقيات المهنة الطبية.

 هنالك مجالات في الطب الشرعي أصبحت من ضمن التخصصات الدقيقة بحيث أن المتخصص العادي في الباثولوجيا الشرعية لا يستطيع الإدعاء بالإحاطة المعرفية التامة بها كالمجالات المتعلقة بعلم السموم والعقاقير وعلم الدم والإجراءات الطبية المستحدثة والتقنيات الحديثة في مجالات الطب المختلفة كالهندسة الوراثية والتلقيح الصناعي والتجارب الطبية... الخ.

استخلص من كل هذا أن الطب الشرعي ليس هو الباثولوجيا الشرعية كما ليس هو الفهم الخاطئ الذي يحصر دور الطبيب الشرعي في تشريح الجثة ومعرفة سبب الوفاة وكتابة التقرير الطبي فهذا ـ إن صح القول ـ هو فهم العامة وليس فهم أهل الاختصاص الذين يدركون تماماً مدى التأثير السلبي لهذا الفهم الخاطئ على الممارسة الطبية، التي تتطلب أن يكون الطبيب إلى جانب تأهيله الفني البحت مؤهلاً لإدراك حدود الممارسة الطبية ولحقوق مرضاه حتى لا يتعرض للمساءلة القانونية من الناحيتين المدنية والجنائية.

أما أهمية دراسة الطب الشرعي بالنسبة للقانونيين سواء في المجال القضائي أو المحاماة أو المجالات القانونية الأخرى فتنبعث من حقيقة أن الطب الشرعي أو العدلي كما هو ظاهر من اسمه له علاقة خاصة بالقانون في كل فروعه، وهو كما حدده المختصون خاص بدراسة ومعالجة القضايا التي ينظرها رجال القانون والتحري من وجهة طبية بالنسبة للقضايا الجنائية والمدنية وقضايا الأحوال الشخصية ففي المجال الجنائي مثلاً تشمل مباحث الطب الشرعي تحديد مسؤولية الفاعل وذلك بتقديم أدلة علمية لها أهمية قصوى يستنير بها القاضي عند إصداره الحكم أو تساعده هذه الأدلة الفنّية على إدانة المتهم أو تبرئة ساحته أو تخفيف الحكم عنه أو وضع تدابير تناسب حالته ويأتي لازمة لذلك أن يكون القاضي على إلمام بمحتويات التقرير الطبي حتى يستطيع أن يبني قراره على أساس سليم من الفهم لهذا التقرير بدلاً عن ترك الأمر لتقديره الشخصي ورأيه، وهو هنا ليس من أهل الاختصاص ولتوضيح هذه النقطة أقول إنّ القاضي حتى وإن لجأ هنا لمواد القانون المتعلّقة بقضايا الإهمال فإنّه سوف يلجأ لنصوص عامة سواء في القانون المدني أو الجنائي تبين ماهية الإهمال ثم يحاول تطبيق هذه النصوص على قضايا الإهمال الطبي ثم أنّ له وبموجب القانون وحتى وإن استعان بخبير طبي ألا يأخذ برأيه ويؤسس عليه حكمه هذا وفقاً للمادة 32 من قانون الإثبات لسنة 1993م على أن يضمن في حكمه الأسباب التي أوجبت عدم الأخذ برأي الخبير وبدلاً عن هذا التضييق على القاضي كان من الممكن توصيف ماهية الإهمال الطبي في القوانين المدنية والجنائية أو عن طريق منشورات قضائية وبالتشاور مع المجلس الطبي، ففي القانون الإنجليزي المبني على السوابق القضائية فإنّ إثبات الإهمال الطبي يستدعي وجود أربعة عناصر هي:

أولاً: هنالك التزام من قبل الطبيب تجاه مريضه.

ثانياً: هنالك مستوى من الممارسة الطبية العلمية المعتادة في الظروف المعنية متوقعة من الطبيب من حيث المؤهل والخبرة.

ثالثاً: هنالك مجافاة أو انحراف عن هذه الممارسة الطبية المعتادة من قبل الطبيب المدعي عليه أو المتهم.

رابعاً: هنالك ضرر وقع على المريض وهذا الضرر يشمل الضرر الجسماني والمعنوي وقد وقع نتيجة الانحراف عن هذه الممارسة الطبية المعتادة.

لا شك أنّ وجود مثل هذا التعريف للإهمال الطبي من شأنه تسهيل مهمة القاضي حتى يستطيع أن يبني قراره على أساس سليم من الفهم للقضايا المتعلقة بالإهمال الطبي حيث أنه سيلجأ في هذه الحالة لمواد في القانون توضح وتعرف ماهية الإهمال الطبي وهذا أيضاً يمكن القضاء من الفهم الصحيح لتقارير الخبراء في هذا المجال.

وهنا تبرز قيمة تدريس الطب الشرعي للقانونيين كأمر حيوي للغاية وأن إهمال الطب الشرعي وعدم الدراية به يؤثر تأثيراً مباشراً على حياة المواطن وحقوقه وحريته ومن التجربة العملية فقد لمست شخصياً أهمية ذلك أثناء دراستي للطب الشرعي ببريطانيا كأول قانوني على مستوى العالم الثالث نال دراسة عليا في هذا المجال، وكذلك من خلال ممارستي لمهنة المحاماة والتدريس بكلية طب جامعة الخرطوم حيث تبينت لي أصالة العلاقة بين الطب والقانون، وأنّ هذا الفرع من العلم لا غنى عنه بالنسبة للقانوني والطبيب، ومن هنا وحتى نكون أكثر عملية وجدية فإنني سأقدم في هذه الورقة مقترحات عملية على المستوى الأكاديمي النظري والمستوى التطبيقي وهذا الأمر يتناول أولاً قضية تحديث وتطوير التعليم الجامعي في المجالين الطبي والقانوني من حيث المناهج وذلك حتى تكون جامعاتنا مواكبة لروح العصر والتقدم العلمي الذي شمل كل أنحاء المعمورة في شتى المجالات وفي المجال القانوني والطبي أتقدم بالمقترحات الآتية:

أولاً: يجب إدخال مناهج الطب الشرعي ضمن الدراسات القانونية بالجامعات السودانية لأنّ إدخال هذا المنهج إلى جانب فائدته العلمية وثمرته العملية يجعل من الجامعات السودانية جامعات متميزة عن غيرها من الجامعات في الدول العربية والإسلامية والإفريقية فيكون لها السبق في إدخال مساق الطب الشرعي في كليات القانون، حيث إنّ الطب الشرعي يدرس للقانونيين فقط في الجامعات الأوربية والغربية وعلى سبيل المثال فإن الطب الشرعي يدرس بجامعة جلاسقو البريطانية لطلاب الطب والقانون معاً ومنذ أكثر من مائة وخمسين عاماً، ولقد سبق لي وأن تقدمت بهذا المقترح لإدارة جامعة أمدرمان الإسلامية في عام 1988م من القرن الماضي وعلى الرغم من أن مقترحي قد جاء متعلقاً بتدريس المساق فقط لطلاب الشريعة والقانون إلا أنّ المقترح قد تمت إجازته بواسطة مجلس الجامعة كقسم كامل وقد دافع عن هذا المقترح أمام مجلس الجامعة أستاذنا العظيم العالم الدكتور محمد محيي الدين عوض، ولكن ظلّ الأمر هكذا معلقاً إلى يوم الناس هذا، وليس هذا بمستغرب فقد ظلت كلية الطب بجامعة الخرطوم وهي أقدم جامعة بالسودان بلا قسم خاص للطب الشرعي حتى اليوم.

وعندما نتحدث عن قسم الطب الشرعي فإنني أقصد قسماً كاملاً بكافة أجهزته ومعداته وكوادره الفنية المتخصصة ولا أتحدث عن مجرد مساق أو كورس نظري كنت بنفسي أدرسه لطلاب الطب بجامعة الخرطوم لمدة عشر سنوات بدأت في عام 1983م من القرن الماضي.. أما مباحث الطب الشرعي المقترحة للتدريس ضمن مناهج القانون في الجامعات فهي كالآتي:

الجزء الأول:

1ـ مقدمة في العلاقة بين الطب والقانون.

2ـ علامات الموت والتغيرات الرمية وأهميتها.

3ـ أنواع الجروح وصفاتها وكيفية وقوعها والآلات المحدثة لها.

4ـ الاختناق ومظاهره وعلاماته.

5ـ الجرائم والأفعال الجنسية وأركانها وعلاماتها.

6ـ الحمل والوضع والإسقاط وقتل الولدان.

7ـ التعرف على الهوية في الأحياء وفي الجثث والأشلاء.

8ـ حوادث العمل والسموم والتسمم.

9ـ الموت والأذى بالأسلحة النارية والمتفجرات.

10ـ الوفيات المتعلقة بالجراحة والتخدير.

11ـ الجوانب الطبية والقانونية للإدمان الكحولي والمخدرات.

ـ الجزء الثاني: الجوانب القانونية للممارسة الطبية:

1ـ قضايا الإهمال الطبي.

2ـ عنصر الرضا في الممارسة الطبية.

3ـ علاقة الثقة بين الطبيب والمريض.

4ـ المثل الطبية والقانون.

5ـ التعقيم وقضايا تحديد وتنظيم النسل.

6ـ التجارب الطبية العلاجية والعلمية وتجارب العقاقير.

7ـ زراعة الأعضاء.

8ـ الهندسة الوراثية ـ التلقيح الصناعي ـ الاستنساخ.

9ـ مسؤولية إنتاج العقاقير الطبية وكل المنتجات المتعلقة بالممارسة الطبية كالدم والنخاع.

10ـ قتل الرحمة.

11ـ الصحة كحق إنساني.

12ـ جوانب الصحة العامة والسياسات الصحية.

وفي المستوى العملي التطبيقي فإنني أقترح اتخاذ الخطوات التالية:

1ـ تأسيس وإنشاء معهد قومي للطب العدلي يقوم إلى جانب عمله في خدمة العدالة بتدريب الكوادر القضائية والمحامين والأطباء وضباط الشرطة ورجال النيابة العامة من الكوادر العاملة حالياً، ويمكن أن يتم ذلك بالتعاون بين المجلس الطبي والجامعات ووزارة الداخلية ووزارة العدل والهيئة القضائية.

2ـ إدراج مبادئ المثل الطبية التي أجازتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 28 ديسمبر 1982م والمتعلقة بدور الأطباء والمهن الطبية في حماية السجناء والمعتقلين ضد التعذيب والإهانة والمعاملة القاسية أو العقوبة وكذلك إعلان طوكيو الذي أصدره الإتحاد الطبي العالمي في أكتوبر 1975م ليصبحا جزءاً من قواعد وآداب السلوك للمهن الطبية التي وضعها المجلس الطبي السوداني وذلك لمنع الاستغلال السياسي أو الأمني بواسطة الأنظمة للمهن الطبية والأطباء مما يؤدي لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وفي هذا المضمار يقرر إعلان طوكيو لعام 1975م: (أنّ الدور الأساسي والجوهري للطبيب هو إزالة المعاناة عن كاهل أخوته في الإنسانية وليس هنالك من دافع شخصي أو جماعي أو سياسي يمكن أن يتخطى مثل هذا المقصد النبيل).

3ـ إعادة أو وضع تعريف للإهمال الطبي بالتشاور مع المجلس الطبي لعدم الجدوى في كثير من الأحيان من تطبيق القواعد العامة للإهمال الواردة في القوانين المدنية والجنائية وذلك لأن لمصطلح الإهمال الطبي معنى فنياً غير المعنى العام لمفهوم الإهمال في القوانين السودانية، وقد سبق وأن أوردت آنفاً تعريفاً لمصطلح الإهمال الطبي.

4ـ وضع قانون للصحة العقلية في السودان كما هو الحال في بقية دول العالم حيث لا يوجد قانون سوداني للصحة العقلية حتى الآن وإنما ينظم ذلك قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م في المادتين 118 (4) والمادة 202 والقانون الجنائي لسنة 1991م في المادة (49).. وقوانين الصحة العامة لسنة 1978م ويجب أن يكون قانون الصحة العقلية مواكباً للتطورات الحديثة في مجال الطب النفسي وعلم النفس والصحة العقلية عموماً حيث أن نطاق الصحة العقلية والنفسية قد اتسع وشمل جوانب اجتماعية وثقافية في الحياة فلم يعد تعريف الصحة بأنّها فقط غياب المرض بل قد يكون هي الخلو من الأزمات النفسية والتمتع بالاستقرار النفسي الذي قد تؤثر فيه سلباً عوامل كثيرة قد تؤدي إلى انحرافات في السلوك البشري ويقع تأثيرها على قوة الإدراك وسلامته رغم انعدام المرض النفسي أو العصبي، وعليه فإنّه يجب وضع الاعتبار عند وضع التشريعات الخاصة بالصحة العقلية لمثل هذه الحالات الخارجة عن نطاق القسمين الرئيسيين للمرض العقلي والنفسي أي الجنون والعصاب وذلك حتى لا يذهب من ارتكب جرماً بسبب حالة نفسية أو عصبية أحدثها على سبيل المثال نقص السكر في الدم أو استنشاق الغازات السامة، إلى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية حيث لا علاج هناك إلا لمرضى النفوس والعقول، ووفقاً لذلك فإنّ قانون الصحة العقلية من شأنه تصنيف مثل هذه الحالات وغيرها وفي كل هذا صيانة للحقوق الأساسية والحريات علماً بأن قوانين الصحة العقلية معمول بها في بلدان العالم المتحضر ومنذ القرن الماضي.

قدمت هذه الورقة للمنتدى التضامني الفصلي الأول.

كاتب المقال أول قانوني على مستوى العالم الثالث ينال دراسات عليا في الطب الشرعي من جامعة جلاسكو /المملكة المتحدة وله مؤلفات في الطب العدلي باللغتين العربية والانجليزية

 

 

  إشترك في القائمة البريدية

  إبحث في الموقع