عرض : امحمد برادة غزيول
عضو المجموعة المغربية للدراسات القضائية( G.M.E.J)
يتزايد اهتمام الدول يوما عن يوم بأهمية العدالة ، وبالدور الذي ينبغي أن تطلع به في ترسيخ دولة الحق والقانون، باعتبارها الساهرة على حماية حقوق المواطنين، والسياج الذي يقي العلاقات القانونية التي تنشأ بين الأطراف، وما يترتب عنها من آثار .
وبقدر ما يزداد توسع القانون بقدر ما تكثر القضايا، التي ترفع أمام المحاكم و ترهق كاهل العاملين بها، وتعكس في نفس الوقت انطباعا لدى المواطنين بالملل من طول المدة التي يستغرقها النزاع ، والتعقيدات المسطرية ، وارتفاع الصوائر القضائية .وعدم رغبة الأطراف المتنازعة في تنفيذ جزء منها أو كلها،إضافة إلى عدم تفهم القاضي أو المحامي للمشكل المثار والحكم في بعض القضايا بحكم لا يرضي رغبة الطرفين المتنازعين ولاياخذ بعين الاعتبار مصالحهما المتبادلة، وماقد يؤديه الحكم من أضرار تمس مصالح أحدهما أو هما معا ، لان العدالة المبنية على أساس الاتفاق تكون اكثر إيجابية ولها آثار فاعلة من العدالة التي يطبقا القاضي اعتمادا على نصوص قانونية مجردة،ومن هنا بدأت المناداة بوجود قضاء مريح للطرفين وعدالة فاعلة خارج حلبة المحاكم، وبالسرعة المطلوبة، وبأقل تكلفة، عن طريق السداد والتوفيق، وإصلاح ذات البين بين المتقاضين بالتوافق و التراضي، لا يكون فيه غالب ومغلوب ، خاطئ أو مصيب ، ودون أن يترتب عن ذلك أية قطيعة بين المتنازعين باستعمال الوسائل البديلة لحل النزاعات، وتجديد السلم الاجتماعي، والمساهمة في التطور الاقتصادي والاجتماعي، والتقليص من عدد القضايا التي تعرفها المحاكم، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من بين الدول السباقة في إحياء، وإبداع تقنيات الحلول البديلة لتسوية النزاعات، من خلال ما يعرف بإدارة الدعوى ، والتقييم المبكر الحيادي، والتحكيم الغير الملزم، واجتماع التسوية والوساطة .
وتعتبر هذه الأخيرة من بين أهم الحلول البديلة لتسوية النزاعات القضائية، وتحظى الآن باهتمام كبير من طرف الباحثين، والممارسين في المجال القضائي والقانوني والسياسي في أغلب دول العالم، التي أصبحت تخصص لها حلقات دراسية وندوات من أجل تحليل ووصف هذا التطور في الحلول البديلة ، كما أصبحت موضوع مجموعة من الرسائل الجامعية لنيل الدكتورة في العديد من الجامعات ، وقد نشرت جريدة الحرية Libération الفرنسية سنة 1989 مقالا مطولا تحت عنوان وسطاء المستحيل Les mediateures de Limpossible لوصف أهمية هذه الظاهرة والحاجة الماسة إليها.
وهذه العدالة اللينة « Justice douce »أصبحت موضة عالمية ، تتبناها العديد من الدول ، نظرا لأهميتها وللدور الريادي الذي يمكن أن تطلع به في التخفيف من الثقل الذي تعانيه المحاكم، والتحول العميق في القانون والنسيج الاجتماعي بكامله .
لقد قطعت الوساطة شوطا كبيرا في مجموعة من الدول الانكلوساكسونية، ولم تعد مقتصرة على حل القضايا البسيطة هناك، بل امتدت إلى جل القضايا المعقدة، مثل القضايا التي تهم التلوث، والملكية الصناعية والثقافية، وقد فتحت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (O.M.P) مركزها الخاص بالتحكيم والوساطة منذ ست سنوات، استجابة للوضعية المعقدة التي توجد عليها الأجهزة القضائية الوطنية، وذلك من اجل مواجهة التعقيدات التقنيـة والمتعددة الاختصاصات القضائية لمثل هذه النزاعات ، كما استعملت الوساطة على المستوى السياسي في حل النزاعات بين الدول.
فما المقصود بالوساطة القضائية، وماهي المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها، وماهي مواصفات الوسيط ، وأهمية الوساطة ، وكيف ينبغي أن تمارس ، وما هو الدور الذي ينبغي أن يطلع به الدفاع في إنجاحها أو فشلها.
ذلك ما سنحاول ا لوقوف عنده ، مسترشدين بالخطوات التي قطعتها الولايات المتحدة الأمريكية ، وخصوصا في ولايات سان فرانسيسكو، حقل التجربة الأمريكية لما يسمى بالحلول البديلة لتسوية النزاعات التي اطلعنا عليها هناك في إطار البرنامج الذي وضعته مؤسسة تنمية الأجهزة القضائية L’institut pour le développement des systèmes judiciaire لمجموعة من الخبراء المغاربة
المقصود بالوساطة والمسطرة التي يتبعها الوسيط :
هل تعتبر الوساطة ظاهرة موضة كما يصفها البعض بذلك، أم أنها تنازل من القاضي لحاجيات المتقاضين ، ولمجتمعنا الحالي كما يصفها البعض الآخر.
لقد فرضت الوساطة على الكثير من المتقاضين كوسيلة تتمتع بامتياز تلقائي لتسوية النزاعات ، وكضرورة لتحديد السلم الاجتماعي، ومن هنا يمكن تعريفها بأنها عملية منظمة، تتم من خلال اجتماع خاص وسري بين أطراف النزاع ودفاعهم، تحت قيادة شخص محايد ، مؤهل يقوم بتسهيل الطريق على أطراف النزاع، وإيصالهم إلى اتفاق مقبول من الطرفين، من خلال شرحه لهم المكاسب، التي يمكن أن يحققوها بالوصول إلى حل عن طريق الاتفاق بدلا من اللجوء إلى القضاء .
فالوسيط لا يبحث مع الأطراف الأدلة الموجودة لديهم بتفصيل، ولا قانونية هذه الأدلة، ولا يتقيد بآجال أو مساطر معينة أو وسائل إثبات خاصة ,وإنما يقوم بدفع الأطراف لصنع القرار بأنفسهم ، وفي جلسة يلتزمون خلالها بالحفاظ على السرية إذا ما فشلت محاولة الصلح هادفا من وراء ذلك إيجاد توافق لارادة الأطراف .
ويمكن أن نشبه دور الوسيط بالدور الذي يقوم به المايسترو ، فهو يوجه الأسئلة التي يراها ضرورية، ويطلب من الأطراف توضيح بعض الجزئيات التي يراها ضرورية أو غامضة، ويقوم بإقناع الأطراف بالتنازلات الممكنة ، والتوفيق بينهما لتقريب وجهات النظر، ودفعهما إلى صنع القرار بأنفسهما بشكل ودي يرتضيانه.
ومن اجل الوصول إلى هذا الحل ، فان الوسيط يقوم بعقد جلسات مع الأطراف المتنازعة ، في جلسة مشتركة يحضرانها ، وجلسات انفرادية مع كل طرف على حدة ، وبمحضر دفاعه.
وهكذا ففي الجلسة الأولى التي يحضرها الأطراف المتنازعة ودفاعهم ، يقوم الوسيط بإلقاء عرض يوضح فيه مهمته، ويوجه الأطراف إلى ضرورة التعامل مع النزاع ، الذي يتوسط فيه بنوع من الجدية ، والصراحة أثناء تقديم كل واحد منهم لوجهة نظره ،وتقديم بعض التنازلات للوصول إلى حل متفق عليه ، لان من شان ذلك الحفاظ على استمرار العلاقة بينهما ، كما يذكر الأطراف بالوقت الذي يستغرقه حل النزاع أمام القضاء والصوائر القضائية المرتفعة، وما يمكن أن يخلفه النزاع من عداوة دائمة بينهم.
بعد هذا العرض يعطي الوسيط الكلمة للطرف المدعي، لبسط النزاع بشكل مختصر، والإدلاء بالوثائق التي يتوفر عليها، وتحديد طلباته .
تم يعطي في نفس الجلسة الكلمة للمدعى عليه ، لإبداء وجهة نظره حول الدعوى ، ويتدخل الوسيط في النقاش عندما يكون هناك اختلاف في وجهات النظر، تم يعلن عن رفع الجلسة الجماعية ، لتبدأ بذلك الجلسة الثانية ، التي ينفرد فيها بكل طرف في النزاع ، حيت يبدأ الحديث مع المدعي ودفاعه ، ويطلب من المدعي حصر طلباته النهائية ، التي يراها مقنعة بالنسبة للطرف الثاني ، الذي سيتم عرضها عليه في جلسة على انفراد، تم يقوم بالاستماع إلى كل طرف ، ويسجل تنازلاته عن جزء من العـروض المقدمة ، ويقوم بإبلاغ هذه التنازلات لكل طرف على حدة وبشكل منفرد ، بمحضر دفاعه إلى حين التوصل إلى الاتفاق المرضي للأطراف ، أو فشل المهمة التي يقوم بها.
ويطلع الوسيط الأطراف في الجلسة الأخيرة ، على مهمته ، والدور الذي قام به ، والنتيجة التي توصل إليها الأطراف ، وتتوج هذه المرحلة في حالة نجاح الوساطة بتحرير الوسيط بالتوقيع عليه عقد الاتفاق ومن طرف المتنازعين ، يتلوه تقديم التشكرات والتهاني للأطراف في هذه الجلسة.
أما إذا فشلت الوساطة، ولم يتم التوصل إلى حل مرضي للأطراف ، فان الوسيط يشعر الأطراف بهذه النتيجة، ويثير في نفس الوقت انتباههم إلى أن ما أدلوا به من تصريحات وتنازلات، ينبغي أن تبقى سرية .
ومن خلال ما ذكر يتضح أن دور الوسيط هو التوفيق بين المواقف المتعارضة لحل كل السلبيات، ودقة الملاحظة وتجميع المعلومات المتناثرة ، فهو يشبه المحلل النفسي ، الذي يصل في وقت محدد إلى الحلول المناسبة بتلخيصه وجهات النظر.
والوساطة تختلف عن الميكنزمات الكلاسيكية للتحكيم التجاري ، التي يختار الأطراف فيها شخصا غيرا ليست له أية فائدة في المشكل الذي يعرضونه عليه، والذي يكون قراره ملزما لهم.
كما تختلف الوساطة عن المصالحة ، التي تتم بناء على أمر قضائي، أو خارج أي تدخل قضائي عن طريق الهيئات ، أو اللجن ذات الاختصاص المهنــي ، فالمصالحة تتطلب زمنا طويلا ، وصبرا واستعدادا للحوار ، وقدرة على التحكم وتهدئة الوضع.
وتشير القوانين العامة والخاصة في القانون المغربي لمختلف المجالات، التي يمكن أن تكون موضوع وساطة في المستقبل، وخصوصا في مجال الأكرية، ونزاعات الشغل، وحوادث الشغل، وقضايا الأحوال الشخصية، والقضايا الجمركية، وقضايا التبغ وقضايا الضريبة الخ.......
الوساطة القضائية والوساطة الاتفاقية:
تتفق الوساطة الاتفاقية ، والوساطة المأمور بها قضائيا، في نهايتهما من حيث الطبيعة ، فالوساطة الاتفاقية تترجم الاتفاقية المحضة ، بينما الوساطة القضائية تدخل في مهام جديدة أسندت للقاضي
أ ـ الوساطة الاتفاقية : La médiation Conventionnelle
تعتبر الوساطة الاتفاقية أقدم من العدالة النظامية، تتم وفقا للإرادة المشتركة لأطراف النزاع ، الذين يحددون السلطة التي يخولونها للوسيط، وبذلك يمكن القول بأن هذا النوع من الوساطة إرادي محض .
والوساطة الاتفاقية إما مهنية محضة purement professionnelle أو حرة أي تخضع في عملها لإرادة الأطراف ، وإما مؤسساتية institutionnelle أي تخضع لنظام الوساطة المقترح من طرف مؤسسة ما ، كما هو الشأن في مادة التحكيم.
وبالنظر لأهمية للوساطة فقد انتشرت مراكز متعددة لها في العديد من الدول كما هو الشأن بالنسبة لبلادنا التي اخذت تشجع علىممارستها في بعض الغرف التجارية كما هو الشان في كل من مراكش والرباط وطنجة التي أنشأت مركز للتحكيم والتوفيق والوساطة .
ب ـ الوساطة القضائية : la médiation judiciaire
الوساطة القضائية هي المأمور بها من طرف القاضي ، الذي يقوم بتعيين شخص ثالث يظهر أنه سيلعب دور المسهل facilitateur لحل النزاع.
وهكذا فان القاضي يمكنه أن يأمر بالوساطة القضائية إذا ظهر له أن ذلك ممكن أو لصالح الطرفين
ـ والمجالات التي يمكن تطبيق هذا النوع من الوساطة ببلادنا متعددة نذكر منها :
ـ نزاعات الشغل الفردية والجماعية.
ـ ملكية الشقق.
ـ نزاعات الجوار
ـ دعوى الأحوال الشخصية
ـ قانون حماية المستهلك
ـ قانون الأعمال والشركات التجارية أو المدنية ( عقد الضمان ، حل الشركة مع ضمانة للاصول ، عقد التوزيع ـ الفرنشيز ، استغلال رخصة عقد ، التنفيذ الخ).
ـ الملكية الفكرية ( حق المؤلف).
ـ حق الشركاء
ـ عقد التأمين
ـ حق البناء الذي يضع عددا من المتدخلين في هذه العملية.
ويبقى للأطراف وللقاضي حق اختيار الوقت المناسب للقيام بالوساطة ، ويمكن أن يتم اقتراح الوسيط من طرف القاضي ، أو بطلب من أحد الأطراف فقط ، أو من الطرفين معا .
والوساطة القضائية ليست تفويضا قضائيا من القاضي ، لأنه لا يخول للوسيط أية سلطة ، وإنما يبقى الوسيط تحت مراقبته ويكون هو المختص للبت في حالة فشل الوساطة فالقاضي يلعب هنا دورين : دور وقائي للحفاظ على سلامة الاجراء ، ودور الايجابي للامر باجراءات الادارة القضائية ، للوصول إلى حل للنزاع بمساعدة الوسيط .
العراقيل التي يمكن أن تقف أمام تطبيق الوساطة :
هل يمكن إعطاء القاضي سلطة فرض وساطة قبل البث في النزاع كشرط لقبول الدعوى كما هو الشان في الولايات المتحدة الامريكية.
ان اعتماد هذه المسطرة يطرح مجموعة من الإشكاليات القانونية والواقعية. فقانون الالتزامات والعقود، وان كان قد خصص في القسم السابع منه بابا فريدا للصلح، في الفصول من 1098 على 1116 فٍإنه ركز على نقطتين أساسيتين هما التمتع بأهلية التصرف بعوض، في الأشياء التي يرد الصلح عليها والأشياء التي لا يجوز الصلح فيها، علما أن دور القاضي في الصلح هو الإشهاد على الأطراف مع مراعاة المسائل التي لا يجوز فيها ذلك .
وهذا الصلح يتم في غالب الأحيان خارج حلبة المحكمة، والأطراف يعرضونه على القضاء للمصادقة عليه، ولا يجوز الرجوع عنه ويصبح عقدا قابلا للتفنيد .
ومن الناحية العملية فإن الاقدام على الصلح من طرف أحد المتقاضين أمام المحكمة نادرا ما يقع لان مبادرة أحد الأطراف بمقاضاة خصمه أمام المحكمة، وتوصله بالمقال أو الاستدعاء يولد بطريقة عفوية إعلانا عن حرب بين الطرفين، يقرر معه المدعى عليه الاستمرار في النزاع إلى آخر المطاف، وبالتالي تبقى نصائح دفاع الطرفين غير مجدية في حل النزاع حبيا .
وقد يعتقد أحد طرفي النزاع أن المصالحة مع خصمه قد تكون مجرد وسيلة للتواطؤ ضد مصالحه .ومن هنا قد يرى الأطراف في الوساطة المسبقة أنها غير مجدية، وستكون مصدرا للتأخير وضياع الوقت والمال
وقد تفصل الأطراف المتنازعة، استصدار حكم قضائي مدعم بنصوص قانونية، وأراء فقهية، واجتهادات قضائية، واذا اضفنا الى ما ذكرانه قد يكون الهدف من رفع الدعوى مثلا هو حقد سابق يعتبر أجنبيا عن الموضوع المطروح، الذي يبث فيه القاضي او أن الدخول في النزاع قد يكون مفتعلا، وذلك رغبة في إخفاء وقائع معينة عن شركة التأمين مثلا ، أو لتبرير موقف في مواجهة البنك أو المساهمين في المقاولة، أو في مواجهة إدارة الضرائب مثلا الخ....... وقد يكون الهدف من رفع أمام القضاء الحصول على تأجيـل التنفيذ، أو من اجل الاستفادة من تخفيض في الثمن، الذي يرفض البائع الاستجابة له.
وهنا نلاحظ أن القاضي يكون ملزما باحترام الإطار القانوني الذي يحدد طلبات الأطراف، ولا يمكنه أن يبث فيما لم يطلب منه .
وعلى عكس ما ذكرنا فإن الوساطة تنصب على شيء يهم الأطراف أنفسهم، والمصالح مثله مثل الوسيط لا يقوم إلا بتهييئ الظروف المناسبة لإنجاح الحوار، ويمرر في نفس الوقت نصائحه للأطراف المتنازعة، دون أن يلزمهم بأي شيء ، بحيث إنهم يصلون بأنفسهم من خلال مسلسل الحوار إلى المصالحة، وتسوية نزاعهم بطريقة إجمالية، دون أن يترك الحوار أي آثار سيئة في نفوس هؤلاء، على عكس ما هوعليه الأمر في النزاع الذي يعرض على القضاء والذي يترك آثارا لا تنساها الذاكرة .
ـ وبالإضافة إلى ما ذكر فإن القاضي في النظام الانجلوسكسوني يملك سلطة ونفوذا لا يتوفر عليها القاضي المغربي، فالجهاز القضائي في هذه الأنظمة الانجلوسكسونية هو الذي يقوم بتهييئ النظام الداخلي لتعامل الجمهور والدفــاع في نفس الوقت مع المحكمة .
وهذا التنظيم الداخلي الموضوع كما قلنا من طرف المحكمة، يشجع في نفس الوقت الأطراف على القيام بالوساطة أو المصالحة المسبقة، قبل القيام بأية مسطرة كما أن القاضي لا يشارك في الوساطة أو الحلول البديلة، ولا يعين الوسيط أو المحكم وكلما في الأمر أن كاتب الضبط يضع رهن إشارة الأطراف أسماء وعناوين الأشخاص والهيئات التي يمكن اختيارها كمحكمين أو كوسطاء و يسلمهم كتيبا يرجع تاريخ إنجازه لسنة 1993، يتضمن معلومات حول أهمية الوساطة والحلول البديلـة للنزاعات، والذي يتعين على دفاع الطرفين الاطلاع عليه، وشرحه لأطراف النزاع و الإدلاء للمحكمة بما يفيد أنهم اطلعوا عليه، وهي عملية من شأنها أن تساهم في توعية المتقاضين، وبالتالي التقليص من عدد القضايا التي تعرض على القضاء.
وبالإضافة إلى العراقيل التشريعية التي يمكن ان تواجه بها الوساطة ببلادنا يمكن ان نشير ايضا الى - انتشار الأمية في المجتمع المغربي بشكل كبير، وفي الأوساط التي تعرف إقبالا على التقاضي من شأنه أن يساهم في عرقلة نجاح الأساليب الوساطة ببلادنا .
_الرسوم القضائية البسيطة التي تؤدى عن تسجيل القضايا المدنية أمام المحاكم، واستفادة بعض المتقاضين من المساعدة القضائية بقوة القانون كما هو الشأن مثلا في نزاعات وحوادث الشغل من شأنه أن يقلل من أهمية الإقبال على هذه الحلول البديلة ما دامت الإمكانية مخولة لهؤلاء بدون أتعاب.
_ كما أن انخفاض الرسوم القضائية من شأنه أيضا أن يشجع المتقاضين على اللجوء إلى القضاء .
-و إذا أضفنا إلى ما ذكر الدور السلبي الذي يلعبه بعض المتدخلين في المساطر القضائية بالنسبة لمحاولة الصلح عندما تأمر بها المحكمة وخصوصا الخبراء والأعوان القضائيون والشهود أقارب وعائلة الأطراف التي تقوم بشحن الطرف الموالي لجهتها بالاستمرار في النزاع إلى آخر المطاف.
_طرق الطعن المتاحة للأطراف ( العادية والغير العادية )، والتي تمارس في اغلب القضايا بشكل تعسفي دون أن يخضع الطرف المتعسف إلى جزاء.
ما يرافق صدور الأحكام من إثارة الصعوبات القانونية والواقعية لعرقلة تنفيذ الأحكام، من أجل ربح الوقت فقط، .
كل هذه العوامل تساهم في عدم إقبال بعض المتقاضين، ممن لهم سوء النية في اللجوء إلى الوساطة كحل بديل ،لأنها تعارض مصالحهم التي تهدف الىالتماطل وربح الوقت.
- الشكليات التي يتطلبها أحداث أو تعديل نص قانوني قبل وصوله إلى الهيئة التشريعية، التي تقوم بدورها بجدولته و مناقشته تبعا لبرامجها وللأولويات التي تراها كسلطة تشريعية ، على خلاف النظام الأمريكي مثلا الذي لا يتطلب كل هذه الإجراءات والذي تضع من خلاله المحاكم برامجها، وقانونها الداخلي الذي يطبق على الأفراد ، والدفاع كما سبقت الإشارة من قبل.
ومن بين العراقيل أيضا وجود نصوص قانونية تحد من فعالية التحكيم، الذي لا يكتسي قوة تنفيذية إلا إذا صادقت عليه الجهة القضائية، وذيلته بهذه الصيغة، وهو ما يعني أنه يبقى دائما تحت مراقبة وسلطة القضاء، أثناء المصادقة والطعن فيه أيضا أمام الجهاز القضائي، وتجريح المحكم.
الحوافز المشجعة على تبني نظام الوساطة :
نجاح الوساطة كنظام بديل لتسوية المنازعات رهين بمدى الاستعداد الذي يمكن أن تبديه الأطراف المتنازعة في التفاوض والتصالح، وتسهيل تسوية النزاع واستيعابهم بجدوى هذه العدالة اللينة ،السريعة والفعالة والتي لا تتطلب أية شكلية للحصول على رضى الطرفين وإنما المهم هو أن يكون هناك اتفاق على اللجوء لهذه الوسيلة من طرف المتنازعين.
فالوساطة تقتضي أن يتم :
1-التفاوض أو التفاهم في جو من السرية وهذه القاعدة أساسية في الوساطة حيث يلتزم الأطراف الذين ارتضوا اللجوء إلى الوساطة كتابة، بعدم إفشاء ما راج أمام الوسيط ، في حالة فشل محاولة هذا الأخير . كما أنه لا يجوز لهم الاحتجاج فيما وقع التنازل عنه أمام الوسيط في حالة ما إذا طرح النزاع أمام القضاء، ما دام هذا التنازل قد تم في ظل تفاهم ووساطة وفي جلسة سرية فهي ضمانة للأطراف وحماية للقاضي ضد خطر الانحياد أو المحاباة .
2-السرعة : من مميزات الوساطة أنها تتم بشكل سريع على خلاف النزاع الكلاسيكي الذي يثار أمام المحاكم أو أمام المحكم ، فالنزاع يمكن أن يتوصل فيه الأطراف إلى اتفاق في يوم واحد فقط . لأنهم قاموا بتقييم الوسيلة الناجحة للاتفاق و المصالحــة في مرحلة مبكرة إيمانا منهم بأن البحث عن الحل، أحسن من ضياع الوقت للوصول إلى الحق بكامله.
3-التكلفة : من مميزات الوساطة أنها أقل تكلفة من مسطرة التحكيم والقضاء النظامي ، لأنها لا تحتاج إلى وقت لدراسة المراكز القانونية للأطراف، ولا لكثرة الاستدعاءات والخبرات والإجراءات القضائية، وحتى في حالة فشلها فان المصاريف تكون غير مكلفة.
4-المرونـة : إن الحلول البديلة والتي من ضمنها الوساطة ،هي حلول اختيارية وليست إلزامية ،وتقوم على إرادة الطرفين ورغبتهما في استعمالها، ومن شأنها أن تسمح بحل نزاعاتهم على المقاس الذي يرغبون فيه . وهو ما يعني أن الوسيط غير ملزم باتباع مسطرة معينة ما دام الهدف هو إيصال الأطراف إلى الحل الذي يرغبون فيه. والوسيط غير مقيد بالوسائل المسطرية والقوانين الوطنية.
وإمكانية اللجوء إلى الوساطة واردة في مختلف مراحل النزاع لأن القانون لا يمنع الأطراف من الاتفاق أو إخضاع النزاع بكامله أو جزء منه للوساطة وفقا لرغبتهم أمام وسيط حر أو تابع للمحكمة .
5-الحياد،النزاهة ،الكفاءة والصبر: عوامل من شأنها أن تعطي للوساطة قوة، فحل القضية من طرف الوسيط المختص في نوع النزاع والمتوفر على أقل ما يمكن من المعارف القانونية أو التقنية ويحضى بثقة الأطراف والقاضي ، يعتبر ضمانة أخرى
لا تتوفر في القاضي الذي يبث في النزاعات التقليدية التي ترفع أمام المحاكم .
إن الثقة في الوسيط والمجهود و الذكاء الذي يبذله في إقناع الأطراف، بتقديم تنازلات وتعديل مراكزهم القانونية للوصول إلى حل وسط ، تجعلهم يطمئنون لحياده وحسن اختياره الحلول التي يرتضونها لان الوسيط فقط رجل الارادة الجيدة بل هو انسان مفعم بالانسانية مؤهل للاستماع والحوار وتهيئ الحل بمساعدة الأطراف لتهدئة الوضع .
ومن خلال ما ذكر يتضح أن نجاح الوساطة كحل بديل رهين بالمشاركة الشخصية للمتقاضين ، والسرية التي يتم فيهما التفاوض، وعدم استعمال أية سلطة قضائية من طرف الوسيط ، للبحث عن حلول عادلة أو على الأقل مقبولة من الطرفين معا .
دور المحامي في الوساطة :
تساهم الوساطة كحل بذيل لتسوية النزاعات القضائية في تحويل دور المحامي العصري، من مجرد مدافع عن موكله – باعتباره صاحب لسان فصيح ورجل تقني يمكنه توظيف النصوص القانونية ،تفسيرها واستعمالها بكثرة- إلى رجل استشارة ونصح قادر على تقييم الأخطار القانونية والمالية التي تلحق مصالح زبونه. وبذلك يمكن القول بان دور الحامي لم يعد مقتصرا على الدفاع عن زبونه فقط بل توسع دوره بحيث اصبح يقوم بتقديم الاقتراح والحلول العملية. ومن هنا تعمل جـل الدول الانجلوساكسونية على إرشاد المحامين بإقناع زبنائهم بجدوى الحلول البديلة لتسوية النزاعات القضائية، وخصوصا منها الوساطة فالمحامي إذن أصبح يلعب دورا في مرحلة ما قبل الوساطة أثناءها وبعدها
1- مرحلة ما قبل الوساطة :
يلعب المحامي دورا هاما في إنجاح الوساطة، فبمجرد تنصيبه من طرف أحد المتقاضين و قبل القيام بأي إجراء وحتى يكون مساهما بشكل إيجابي عليه :
- أن يفسر لهذا الأخير مسلسل الوساطة .
- الفرق بينها وبين التوفيق.
- الأطراف الذين يحضرون جلسة الوساطة.
- الدور الذي سيطلع به كل طرف في النزاع أثناء اجتماعهم مع الوسيط في مكتبه .
- توعيته بالفرصة التي ستتاح له لتوضيح نزاعه أمام الوسيط اكثر من أية جهة قضائية أخرى وان مشاركته من شأنها أن تساعد اكثر في إيجاد الحل لأنه سيتحدث بكل حرية وسيتم الاستماع أليه ويفسر له بأن حظوظ نجاح الوساطة رهين بمدى استعداده للتفاوض .
- توجيهه إلى الطريقة التي سيتبعها مع الوسيط ، والاستعداد لقبول المسلسل.
- تفسيره لزبونه بأن دور الوسيط هو تسهيل الأمور وتقييمها .
- التاكد من مدى استعداد زبونه لمقابلة خصمه أمام الوسيط في نفس الجلسة أم انه يفضل الجلوس على انفراد مع هذا الأخير.
- المناقشة مع زبونه حول الوضعية التي يريد الحصول عليها في النزاع .
-الاخذ بعين الاعتبار الأولويات الخاصة بالزبون.
-الاخذ بعين الاعتبار المصالح المتعددة للزبون كالاحتفاظ بمنصب الشغل، أوعلاقة تجارية ، أو الوصول إلى حل قانوني ليس من شأنه أن يؤثر استقبالا على المعاملة التجارية بينه وبين خصمه.
- مساعدة الطرف الآخر على تفهم أهداف ومتطلبات خصمه.
- أن يفهم زبونه ان المدة الزمنية التي يستغرقها النزاع أمام المحكمة من شأنها أن تشل حركة الأطراف المعنية فالمصلحة المشتركة في إيجاد حل تكون جد مقبولة في هذه الحالة.
- أن يضع الزبون في موقع الطرف الآخر لكي يستطيع تفهم موقف هذا الاخير
_ أن يؤكد لزبونه بان التفاهم مع الطرف الآخر لا يعني الوصول إلى اتفاق نهائي معه.
- أن يتفهم هو و زبونه كل أهداف ومصالح ومتطلبات الطرف الآخر للوصول إلى الخيارات الممكنة لتلاقي هذه المصالح. فعوض أن يركز المحامي مثلا على المصالح المادية عليه أن يبحث مع زبونه الطرق المتعددة التي يمكنها أن توسع وعاء التفاهم .
- أن يجرب الخيارات على الواقع وما إذا كان الحل ينسجم مع مصالح الطرفين.
- أن يأخذ بعين الاعتبار إمكانية فشل محاولة الوساطة ورد فعل الأطراف
2-مرحلة الوساطة :
نجاح الوساطة رهين بـ :
- حضور كل الأطراف المعنية ومشاركتها في هذه العملية، لان عدم حضورهم في الوساطة من شأنه أن يؤدي إلى فشلها خصوصا من كان له دور فاعل في حل النزاع.
- إتاحة الفرصة لكل طرف لإبراز تصوره للنزاع أوحله، وهذه العملية هي أول فرصة بالنسبة للزبون للمناقشة مباشرة مع الطرف الآخر إو فيما بينهما .
- ترك الفرصة للزبون لعرض نزاعه وتحديد الأهداف والمصالح التي يرغب الحصول عليها، والحاجيات التي يريد الوصول إليها في الاتفاق، رغم أن المحامي يملك الوسائل القانونية والحيثيات المبررة في بعض الأحيان للوصول إلى النتيجة.
3- مرحلة ما بعد الوساطة:
إذا توصل الأطراف إلى ا اتفاق كلي أو جزئي للنزاع فانه يتعين على الوسيط تحرير النقط الأساسية ، التي يحتاج إليها في النص النهائي للاتفاق الذي يجب أن يحرر في حينه بعد انتهاء الجلسة يشار فيه إلى الحلول التي تم التوصل إليها، ويتم إيداع نسخة من هذا الاتفاق بالملف وتسلم للطرفين نسخة منه ومن خلال ما ذكرناه أعلاه، تتضح مدى أهمية الوساطة كحل بديل للنزاعات ، فالرهان مقبول، ونجاح التجربة رهين بتوعية الفاعلين في الحقل القضائي والقانوني ،والمجتمع المدني، و المشاركة الإيجابية لوسائل الإعلام وتوافقها مع التقاليد المحلية الخاصة ، وتفهم الجهة التشريعية لهذه الثورة القضائية الإيجابية والفعالة ،التي تهدف البحث عن مصالح الأطراف في أسرع وقت ممكن، وبأقل تكلفة وفي غياب القيود القانونية وحث الأطراف على صياغة الاتفاق في جو من التراضي والإقناع ودون أن يخلف النزاع رواسب .
وبذلك نرى أن ركوب قاطرة الحلول البديلة وخصوصا منها الوساطة أصبح مطلبا ملحا وممكنا لتلافي تراكم القضايا بمحاكمنا إذا توفرت النوايا الحسنة وتكاثفت الجهود على مختلف الواجهات، خصوصا وأن فكرة الوساطة ليست غريبة على بلادنا ، فجل النزاعات كانت تحل في العديد من المناطق ببلادنا عن طريق الوساطـة ، التي كان يقوم بها شخص مسن ، أو له مكانة اجتماعية خاصة ، أو لكونه معروف باستقامته وورعه ، كما أن القاضي المسدد كان يلعب دور الوسيط أو المصالح ، كل ذلك من شأنه أن يساهم في إنجاح هذه التجربة التي ستقدم عليها بلادنا استقبالا ، وعلى غرار ما سارت عليه العديد من الدول.