ولقد انقسم الرأي حول طبيعة هذه العقود إلى فريقين أولهما ينكر عليها صيغتها التعاقدية إذ أن العقد يوافق إرادتين عن حرية واختيار بينما هو في هذا النوع من العقود مجرد إذعان أو انضمام لا يصدر عن إرادة حرة بل على المتعاقد أن ينزل على حكم هذه الشركات فالرابطة القانونية بينهما قد خلقها في الواقع إرادة المحتكر وحده ولذلك فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن يفسر هذا العقد وأن تحدد التزاماته وحقوقه على ضوء هذه الاعتبارات وعلى أساس المصلحة العامة لمجموع الأفراد فتراعي مقتضيات العدالة وحسن النية وما تستلزمه الظروف الاقتصادية أما الفريق الثاني فيرى أن حجج الفريق الأول ساقطة ولا تصلح أساسًا للقول بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ثم بتوافق إرادتين فكثير من العقود في العهد الحديث يتحقق فيها إضطرار أحد طرفيها أو كليهما للتعاقد دون أن يذهب أحد إلى القول باعتبار هذا الاضطرار إكراه مبطلاً للعقد كما أن انعدام المساواة بين المتعاقدين لا يمكن تجنبه فهو كثير الحدوث في العقود الرضائية البحتة أليست شروط عقود الإيجار والعمل ترمي غالبًا إلى رعاية مصلحة المؤجر ورب العمل أكثر من رعاية مصلحة المستأجر والعامل ؟ لذلك فإن هذا الفريق يرى أن ركن الاضطرار في هذه العقود أقل منه في غيرها فالكل أمام المحتكر سواء والعقود جميعًا على وتيرة واحدة ولا توضع إلا بعد موافقة السلطات الحكومية ولهذا فإن هذا الفريق يرى أن العقد في هذه الحالة عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين وأن علاج الضعف المزعوم لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي تم بتوافق إرادتين ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد بل بتقوية الجانب الضعيف سواء بالوسائل الاقتصادية أو التشريعية والقضاء في فرنسا وفي مصر لم يتأثر كثيرًا بالمذهب الأول بل أخذ كمبدأ عام بالمذهب الثاني ولكنه مع أخذه باعتبار هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أخذ يتلمس الطرق للحد من قسوتها وتعسفها بدعوى أنها تتناقض مع جوهر العقد أو لأنها مخالفة للنظام العام والآداب أو لأن المتعاقد لم يكن ليستطيع الوقوف عليها وقت التعاقد أو لتناقضها مع شروط مكتوبة.[(20)]
والقانون المدني الجديد وإن أخذ بالمذهب الثاني على النحو الذي طبقه القضاء فاعتبر هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أعطى للقاضي سلطة تعديل الشروط الجائزة أو الإعفاء منها، فالمادة (100) منه تنص على أن (القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل المناقشة فيها)، كما تنص المادة (149) على أنه إذا تم العقد بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروطًا تعسفية فإنه يجوز للقاضي أن يُعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقًا لما تقضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، كما تنص المادة (151) فقرة ثانية على أنه (لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضار بمصلحة الطرف المذعن).. على أننا نرى من المفيد أن ننقل أولاً مذكرة المشروع التمهيدي على المادة (149) ثم نتناول بعد ذلك سلطة المحكمة على ضوئها فلقد جاء فيها (تناول المشروع فيما تقدم بيان الأحوال التي يتم فيها التعاقد بطريقة الإذعان)، وقد قصد إلى التخفيف مما يلازم هذا الضرب من التعاقد من شدة وحرج، بالنسبة للعاقد المذعن فأقام لصالحه استثناءين من إحكام القواعد العامة في تفسير العقود فالأصل أن الحاجة إلى التفسير لا تعرض متى كانت عبارة العقد واضحة ففي مثل هذه الحالة تطبق شروط التعاقد كما أفرغت بيد أن الحكم يختلف فيما يتعلق بما يدرج في عقود الإذعان من الشروط الجائرة فالالتجاء إلى التفسير يتعين بشأنها، ولو كانت واضحة العبارة بينة السياق فمن واجب القاضي أن يثبت في هذه الحالة مما إذا كان العاقد قد تنبه إلى هذه الشروط فإذا استوثق من تنبه هذا العاقد إليها كما لو كان العاقد الآخر قد احتاط فجعل تلك الشروط مخطوطة باليد في عقد مطبوع، تحتم عليه أيضًا إمضاء حكمها رعاية لاستقرار المعاملات أما إذا تبين أن العاقد المذعن لم يتنبه إلى الشروط الجائزة فعليه أن يستبعدها وينزل على أحكام القواعد العامة، في هذا النطاق الضيق يطبق هذا الاستثناء فلا يبلغ الأمر حد استبعاد الشرط الجائر بدعوى أن المذعن قد أكره على قبوله، متى تنبه إليه هذا العاقد وارتضاه فالإذعان لا يختلط بالإكراه، بل إن التوحيد بينهما أمر ينبو به ما ينبغي للتعامل من أسباب الاستقرار ثم أن ما يولى من حماية إلى العاقد المذعن ينبغي أن يكون محلاً لأحكام تشريعية عامة، كما هو الشأن في حالة الاستقلال أو التشريعات خاصة. [(21)]
ولذلك فإن على القاضي أن يتبين أولاً ما إذا كانت عبارات العقد واضحة أم غامضة فإن كانت الأخير كان عليه أن يُطبق قواعد التفسير فلا تفسر هذه العبارات بما يضر مصلحة الطرف المذعن المادة (151) ف (2) أما إذا كانت العبارة واضحة فإن على القاضي أن يبحث ما إذا كانت هذه الشروط تطابق القواعد العامة أم أنها شروط جائرة تخالف في الكثير منها هذه القواعد وفي هذه الحالة يتعين التفرقة بين حالة معرفة الطرف الآخر لها وقبوله التعاقد عن علم بها أم أنه كان جاهلاً بها وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يكون للقاضي سلطة التعديل من هذه الشروط أو الإعفاء منها.
هذا وقد حكمت محكمة النقض المصرية في 25 مايو سنة 1950 بأن الشرط الوارد في عقد من عقود الإذعان لا يُقاس قبوله على قبول المكره ولم يجز القانون المدني للقاضي تعديل هذه الشروط أو الإعفاء منها إلا إذا كان شرط الإذعان تعسفيًا، وهذا الحكم تفسير للمادتين (100)، (149) مدني جديد ولم تجز محكمتنا العليا إبطال شرط من شروط عقد الإذعان بهذه الصفة فقط بل اشترطت أن يكون هذا الشرط تعسفيًا ولا شكل أن خير مقياس للتفرقة في هذه الحالة هو الرجوع للقواعد العامة لمعرفة مدى مطابقة الشرط أو مخالفته إياها.
وقد أخذ على هذا الحكم أنه لم يتبين حكمة التشريع فالمشرع قد رمى من وضع المادة (149) إلى أن يخرج القاضي عن وظيفته وهو تطبيق العقد إلى شيء آخر هو العمل على توازن شروط العقد بين العاقدين ليتعرف هل يوجد توازن حقيقي أم لا يوجد ومدى الإكراه الاقتصادي الذي انتهى بالعاقد إلى الإذعان. [(22)]
وعلى ذلك فإن على المحكمة أن تُطبق هذه القواعد على عقد النقل ونجد أن تطبيقها سيؤدي إلى الأخذ بذات الأحكام والمبادئ التي كان معمولاً بها، ولا زالت، والتي تفرق بين شرط عدم المسؤولية من ناحية وشرط تحديد المسؤولية من ناحية أخرى وكما تفرق من جانب بين حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس من جانب وحالة الخطأ اليسير من جانب آخر.
2 - شرط عدم المسؤولية: إذا اشترط أمين النقل هذا الشرط في بوليصة الشحن وارتكب بعد ذلك خطأ، سواء أكان مفرضًا أم مثبتًا، فما هو حكم هذا الشرط ؟ هل يترتب عليه براءة ذمته ؟ أم يعد شرطًا باطلاً لا أثر له فتطبق القواعد العامة السالفة الذكر ؟ هذا وقد يرتكب خطأ جسيمًا أو تدليسًا أو غشًا أو قد يرتكب مجرد خطأ يسير والحكم في الحالتين لا يمكن أن يكون واحدًا.